19 إبريل 2024 م -
  • :
  • :
  • م

Content on this page requires a newer version of Adobe Flash Player.

Get Adobe Flash player

    خضر والتنين

    آخر تحديث: الأحد، 18 مارس 2012 ، 00:00 ص

    بقلم المحامي: جواد بولس

    مستلقيًا على كنبتي، مساءً، أحاول أن ألتقط بعض شوارد من ذاكرةِ يوم شلّها إعياء وعطّلها غضب... السماء هنا، في القدس، ما زالت تبكي، دموعها لم تتوقف منذ زمن، والريح تصفر، تتراقص كابنة الأرض وكصاحبة المدى المدلَّلة. رحلتي بدأت مع قرع جرس ساعة الخبز ولفتة من حارسة الوعد، فما شق نافذتي شعاع ولا هَمَس دوريٌّ على شبّاكي. تحيطني عتمة مغرية تشبه تلك التي نمتُ على خدّها.
    في الغرفة بقايا نوم ينسحب بوجع ودفء يوشّحه قلق أحلامنا المبعثرة. كأنّه الصباح. بفائض تكاسل أنهي طقوسه وأودع حصني إلى حيث ميدان الخديعة وغرف الوهم والتخدير، إلى حيث منذ ثلاثة قرون أعيش القهر وأشهد على كيف ما زال "يوشع" يدكُّ أسوارَ المدائن، وبأمر الرب، يمحو كل أمل حي، فلا يبق لا زرعًا ولا ضرعًا ولا حتى للأحلام مخادع. أتدثَّر بطبقات صوفية، فالبرد أقسى من زنزانة، والمطر ينهمر دموعًا أو بركة لن تجد حقلها، فهذا صار مستوطنة لثعالب الهضاب أو سجنًا ومحكمة عسكرية، هي وجهتي اليوم كما كانت وستبقى، يا لحسرتي، حتى بعدما سيرتاح المحارب.
    تتغيّر مواقعها ولا يتغيّر وقعها. في كل مرة أدخلها يملأ الملح تجاويف فمي. في الهواء تزكمني رائحة الغطرسة وتضج أصوات غريبة عصيّة على الاستعذاب وكذلك على الاستساغة، لا تشبه صوتًا نألفه وتشكّل مزيجًا لا يذكّرك بصوت الملائكة ولا بالنباح. أهرول. المطر يتلبسني، يغسل بقايا نعاس وشهوة الجسد للضياع. أصل كامل البلل جاهزًا للطام موج ومد يدٍ لغريق. أدخل القاعة رقم ٦. قاعة صغيرة كبيت عقرب، بسيطة كبسمة أرملة، لكنّها تفي بما أعِدّت له ومن أجله، فهي الهياكل شيّدت كبيرة لتليق بمقام الرب، وعالية لتكون منصات أقرب للغيم وللسماء، أمّا المذابح جرّدت من أبّهة وبريق، فهي الحواصل تجمّع زفرات العذارى، والمحاقين تلتقط دموع نواطير الكرم، فرسان الوطن، أصحاب المنارة.
    في المدخل كرسي متحرك أخلاه صاحبه. بجانبه سجّان من فرقة "نحشون" أعتقد أنه في عقده الثالث، حافظ على بسمة راوحت بين البَلَهِ والشماتة والإعجاب، جسمه كمصارع مصنّع ومعلّب، جاهز للانقضاض. في الصدر تجلس النائبة العسكريّة. وجهها من تلك الوجوه التي تنسى معالمها ما أن تدير رأسك عنها. لا تبتسم، لا تضحك، لا تعبس ولا تحنق، وجه معد للنسيان. لا أذكر إن كان جميلاً أو عاديًا فهناك لا طعم للجمال ولا رائحة للعاديّ. على يميني، في المكان المعد للمتهمين الفلسطينيين، يجلس "الخضر" بلباس يعلنه أسيرًا ومناضل حرية. لحيته طويلة ناعمة بلون "عين النمر"، صفرة مقلقة تعلو على ما بقي ظاهرًا من وجهه وجبينه. حيّا ببسمة متعَبة، لكنّها تفيض رقة وصدقًا. بصوت خفيض، يشع وضوحًا وإصرارًا وعزّة، حدَّثنا عن كيف تقهر كبرياءُ الحر غطرسةَ محتلٍ وكيف لقصة كفاح حية أن تهزم أساطير البرق والرعد من أيام يوشع إلى أيام يوشع.
    أسمعه وزملائي المحامين، طاقم الدفاع. في وسط الدهشة، يعلن حاجب المحكمة عن دخول القاضية. تحيينا بصوت الفناه من طول ممارسة. تطلب القاضية من موكّلنا أن يعرّف نفسه. خضر عدنان.. يقولها بصوت صارم وهو جالس لأنه لا يقوى على الوقوف. بجانبه زجاجة ماء يشرب منها على مهل، فالماء زاده ودواؤه، منذ أعلن إضرابه عن الطعام قبل خمسة وأربعين يومًا. اعتقله الاحتلال من بيته في عرابة جنين. حوّلوه للتحقيق لدى جهاز المخابرات العام كناشط في تنظيم الجهاد الإسلامي.
    بعد ساعات وخلال استجوابه بدأ المحققون يهينونه. بدأوا يتعمّدون استفزازه بالكلام النابي والمس بحرمات أعزّائه والغالين على قلبه. بوقفة حر، عزيز نفس محب لأم وزوجة وأبناء، أعلن لمحققيه أنّه لن يتعاطى مع أسئلتهم. توقف عن الكلام وأعلن إضرابًا مفتوحًا عن الطعام.
    "إنّها كرامتي وعزتي، يا أستاذ، من أجلها أضربت. فليعرف العالم ذلك. لا لم أضرب من أجل الإفراج عنّي، فاعتقالهم باطل. لجأوا إلى اعتقالي إداريًا بعد إفلاسهم. فلا تهمة ضدي ولا بيّنات، ولكن ما طعم الحرية بدون كرامة وبدون عزّة؟".
    هكذا بصوت منهك أسمع "الخضر" قصّته منذ لحظات الاعتقال الأولى وحتى إحضاره إلى قاعة المحكمة. "يحاولون إذلالي. يحاولون إهانتي يريدون النيل من إنسانيتي وكرامتي ولكن لتعلمي وليعلم العالم، لن أركع ولن أقبل، أنا أحب الحياة وسأعيشها حرًا كريمًا وإلا فلا أهلاً بالحياة".
    القصة "خضر" وليست المحكمة. ألم يكن "الخضر" دائمًا الحكاية والعبرة، من يوم قضى على التنين وناصر الفقراء والبسطاء وأصحاب الحق، كان "الخضر" هو الحكاية وهو العبرة، وها هو يبقى. إنّي رأيته هناك يربكهم بإصراره الإنساني. يحرجهم بصموده. سمعته هناك، يدلي بشهادة تبكيني وتكاد تذهب بعقلي، فيصحيني صوته ويعيدني إلى العبرة والى عزيمتي. أتفرّس في وجوههم وأكاد ألقِّطُ بأطراف أصابعي هزيمتَهم تتهادى من حواف رموشهم وأرنبات أنوفهم. وفي برد مقيت يتميّز به الاحتلال، وجو مفعم برائحة هزيمة ونصر، استمرت الجلسة ساعات طويلة، بعدها أعلنت القاضية عن رفع الجلسة كي تعاين ملف "الخضر" السري،(فالظلمة غطاء الظالم) بعدها ستعطي قرارها.
    من سينتظر قرارها.... ألم يعلمنا الراوي أن النصر لخضر؟ انسلت من مقعدها وغابت. وأعيد خضر إلى كرسي المقاومة، نظر إلينا فتواعدنا أن نلتقي عند منحنى الحرية. "إن عاش"، تمتم بعينيه ذاك السجان حينما حدّق بوجهي، فذكّرني أنّ من ولد من رحم دبابة لا يُجدي معه إنعاش ذاكرة... فالخضر هناك، راكبًا على نجمة الصبح، ورمحه، هكذا روى الراوي، سكن في حلق التنين.

     (المصدر: صحيفة القدس الفلسطينية، 4/2/2012)


    أضف تعليق



    تعليقات الفيسبوك

حسب التوقيت المحلي لمدينة القدس

حالة الطقس حسب مدينة القدس

استطلاع رأي

ما رأيك في تضامن الشارع الفلسطيني مع الاسرى في معركتهم الأخيرة في داخل سجن عوفر؟

43.5%

16.7%

35.2%

4.6%

أرشيف الإستطلاعات
من الذاكرة الفلسطينية

بداية الإضراب الكبير في فلسطين

19 إبريل 1936

الاستشهادي أنس عجاوي من سرايا القدس يقتحم مستوطنة (شاكيد) الصهيونية شمال الضفة المحتلة، فيقتل ثلاثة جنود ويصيب عددا آخر

19 إبريل 2003

تأكيد نبأ استشهاد القائد المجاهد محمود أحمد طوالبة قائد سرايا القدس في معركة مخيم جنين

19 إبريل 2002

استشهاد المجاهد عبد الله حسن أبو عودة من سرايا القدس في عملية استشهادية وسط قطاع غزة

19 إبريل 2002

الاستشهاديان سالم حسونة ومحمد ارحيم من سرايا القدس يقتحمان محررة نيتساريم وسط قطاع غزة ويوقعان عددا من القتلى والجرحي في صفوف الجنود الصهاينة

19 إبريل 2002

عصابة الهاغاناه تحتل مدينة طبريا، حيث سهل الجيش البريطاني هذه المهمة وقدم المساعدة على ترحيل السكان العرب، وانسحب منها بعد يومين تماماً

19 إبريل 1948

الأرشيف
القائمة البريدية