الأسير زهير لبادة .. ناديت عليك فلم تجب!

بقلم: عيسى قراقع
وزير شؤون الأسرى والمحررين

كأنه كان نائما، عائدا من مستشفى الرملة  الصهيوني محمولا على غيبوبة صفراء، انتظرته حتى منتصف الليل، جسد أثقله المرض وهدته سنوات السجن والإبعاد والمسافات المغلقة بين سجن وزنزانة وصراخ في الصدى.
الأسير زهير لبادة، أبلغه طبيب السجن عندما تقرر الإفراج عنه لأسباب صحية بأنه في طريقه إلى الموت، لم يصدق ذلك، لأن في الحرية شفاء، وفيها يكتمل الجسد والهواء ودفقات الدم في الذاكرة.
كانت مدينة نابلس تنتظره عند حاجز حوارة، نزلت المدينة عن جبليها واستعدت لوداع قادم، وتحفزت لوداع سوف يأتي بعد قليل، وأعطت نائبة المحافظ عنان الاتيري كل تعليماتها للمستشفيات وطواقم الإسعاف للاستعداد لاستقبال أسير تحطم جسده مرضا وقهرا، وأمرت أن يغتسل زهير لبادة برائحة المدينة العتيقة كي يصحو ويركض إلى أطفاله الصغار.
زهير لبادة ودع زملائه المرضى بالسجن، وقد أوصاهم بموت أبيض، وبصمت وردي لا يشبه صمت المسكنات في الأجسام المخدرة، وقد وعدهم أن يفتح ملفاتهم الطبية التي أغلقت، ويحمل بخار أنفاسهم الساخنة إلى كل مكان قائلا: لا املك سوى أن تنظم جنازة لائقة لكم، ولا تموتوا في هذا القبر بلا مشيعين.
وعدهم إن وصل حيا أن يقول كل شيء عن «Ø­ÙŠØ§Ø© الآخرة» في سجن الرملة: عن رياض العمور المريض بالقلب وغيبوباته المتكررة... عن منصور موقدة المشلول المشغول بالأكياس البلاستيكية المتدلية من جسده، عن علاء حسونة ذي القلب المفتوح والدقات المتباطئة، عن معتصم رداد الذي يعاني من ورم سرطاني في الأمعاء، عن ناهض الأقرع المبتورة إحدى ساقيه والخائف على الأخرى، عن خالد الشاويش المشلول المشبع بالمسكنات وجنون الآلام، عن أحمد سمارة المصاب بالسرطان في غدده الدرقية، عن محمد سليمان المصاب بالتلاسيميا، عن علاء الهمص المصاب بالسل، عن اشرف أبو دريع ومحمد أبو لبدة المقعدين، عن أكرم الريخاوي ومحمود سلمان وعثمان الخليلي ومناضل الشرقاوي وعبد السلام بني عودة، عن أسرى فقدوا النظر، وأسرى زرعت في أجسادهم فيروسات غريبة، عن الطبيب الذي يرتدي زي السجان، وحبة الدواء التي تأخرت في كأس الماء.
وعدهم إن وصل حيا أن يفتح باب التابوت، ويجمع الأجسام الممزقة أمام العالمين، ويقرأ الفاتحة على النصوص الدولية وشرائع حقوق الإنسان قبل أن يوارى التراب فوق أوجاع المقهورين المحشورين بين الموت والحياة.
غسل زهير لبادة كليتيه ونام مؤقتا فوق هشاشة عظامه عائدا إلى ملكوته الآخر، وكان يحلم: هناك نجوم في السماء وليست اسيجة، هناك خيمة في ساحة دوار نابلس وأمهات وأطفال وصور وأصوات وأدوية، هناك ما ينعش الفكرة في دمه المسمم وعسل أحمر وفراشات ملونة.
وصل زهير لبادة المستشفى التخصصي في نابلس فتح عينيه، رآنا جميعا، ولكنه لم يتكلم، كل شيء في أعماقه ساكن ومدفون، ناديت عليه فلم يجب، حملق فينا كأنه يقول لنا: لقد تأخرت عليكم وتأخرتم علي، اتركوا كلامكم على الشرشف الأبيض وغادروا، لي موعد مع حالي وحوار مع غيبوبتي العنيدة.
ناديت عليه فلم يجب، أردت أن أقول له أنت الآن حر، ليس حولك جلادون وسجانون وأبواب حديد، أنت الآن بين أهلك وفي مدينتك التي تحبها،أردت أن يتحرر زهير لبادة من كفنه وألمه، وينهض قليلا ليمشي أو يضحك أو يتنفس على صدر أمه.
ظل في غيبوبة لمدة أسبوع، لم ينجح الأطباء في إيقاظه ووقف نزيفه الذي اقتحم جسده وقلبه ودمر أمنياته الجميلات، ربما حاول أن يصحو فلم يقدر، حاول أن يبعد لون الدواء والأسلاك ورائحة البنج والدم من حوله ليروي ما أراد أن يرويه، ولكن لم يقدر ...لقد استشهد، سكن الجسم الصاحي، تعانقت عيبال وجرزيم تحولنا إلى شظايا في سماء مدينة حاصروها بالجنازات وبالعاجزين..

 

(المصدر: صحيفة القدس الفلسطينية، 05/07/2012)