الشهيد الأسير أنيس: دولة الاحتلال لا زالت تخشى ظهوره في جنازة

الكاتب: عيسى قراقع
وزير شؤون الأسرى والمحررين

بعد 33 عاما على استشهاد الأسير الفلسطيني أنيس دولة في سجن عسقلان عام 1980، واحتجاز جثته داخل ما يسمى مقابر الأرقام العسكرية الصهيونية أعلنت المحكمة العليا الصهيونية ردا على التماس قدمه مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان أن جثمان الشهيد أنيس دولة قد ضاع واختفى، وأنه لا فائدة من البحث عن جثته لإعادتها إلى ذويه بعد طول انتظار ومتابعة.
الشهيد الأسير أنيس دولة اعتقل عام 1968 وحكم عليه بالسجن المؤبد، وسقط شهيدا في سجن عسقلان يوم 31/8/1980 نتيجة تدهور وضعه الصحي على اثر مشاركته في الإضراب المفتوح عن الطعام والذي استمر 30 يوما.
سلطات الاحتلال بدلاً من تسليم جثمانه إلى ذويه احتجزته في مقابرها السرية، ليستكمل حكمه ميتاً تحت التراب، ومضى زمن طويل، وروح الشهيد تنتظر من يخرجها من تلك المدافن البائسة، ويحررها من قيود الموت المظلم إلى فضاء الموت الوردي الذي يليق بالشهداء.
أسئلة ضياع جثمان الشهيد أنيس دولة لا تقف عند إغلاق هذا الملف في القضاء الصهيوني، وإنما تعود بنا إلى الوراء، إلى ذلك الفدائي الذي خاض معركة الجوع مع زملائه الأسرى، ورفض مساومة أطباء السجن بإعطائه الدواء مقابل وقف الإضراب.
ضياع الجثة يعيد ذلك المشهد لبطل أسير تدهورت حالته الصحية في ملحمة صمود الأسرى، ورفض الطبيب في سجن عسقلان الذي يدعى (أدمون) إعطائه العلاج اللازم، ليسقط أنيس دولة واقفاً متكئاً على جدار السجن بعد أن فقد الوعي، وقبل أن يموت فتح عيناه فوجد زملائه الأسرى حوله فابتسم ابتسامته الأخيرة.
انتصر الأسرى في إضرابهم التاريخي، كما انتصر أنيس دولة وحقق الأسرى انجازات نوعية وتاريخية، فدفع ثمن هذا الانتصار الشهيد أنيس دولة والذي خرج من باحة السجن شهيدا إلى مقابر مجهولة، وليس إلى بيته وعائلته في مدينة قلقيلية، لم يحظ برائحة البرتقال والجوافة وزفة الشهيد اللائقة.
جثة الشهيد التي دفنت في مقابر مسيجة، لا يدل على سكانها سوى أرقام صدئة، تعرضت لنهش الوحوش الضارة أو الانجراف في فصل الشتاء أو لتجارب وسرقة الأعضاء، لأنه لا كرامة للميت في دولة الاحتلال، وعلى الشهيد الفلسطيني أن يتعذب مرتين: مرة في الحياة ومرة بعد الموت.
أخفت دولة الاحتلال جثة شهيد جاع طويلاً، وتعطش كثيراً للحرية، لم يكمل مؤبدة إلا بالموت الحر، صاعداً إلى ملكوته بلا قيود وأبواب مغلقة.
منذ 33 عاما لم تنته محاكمة الشهيد أنيس دولة على دوره الطبيعي في محاولة اقتباس أمثولة الطير في الطيران وضحكة الضوء في عتمة الزنزانة.
لا زالت دولة الاحتلال تناقش حبات الملح في روحه وأسباب فدائيته، خائفة من ظهوره في جنازة أو من شاهد يدل على قبره، معتقدة أن الأموات تدل على الأحياء، وأن أنيس دولة لا زال يغني نشيد عسقلان في أبديته المتحولة.
بكل هدوء أعلنت محكمة الاحتلال العليا عدم وجود رفاته، شطبوه حياً وميتاً، مزقوا كوشان ميلاده وأحلامه المؤجلة، مزقوا صوره وكراساته الملغومة بالأمنيات.
القرار الصهيوني يفتح الملف المؤلم مرة أخرى، يلقي الضوء على تلك المقابر الجهنمية التي يجب أن تغلق، ويعود أكثر من 250 شهيداً لا زالوا هناك، إما أنهم ضاعوا أو مزقتهم وحوش النسيان، حتى تختفي آثار الجريمة.
أدعو فقهاء القانون والمؤسسات الحقوقية والصليب الأحمر الدولي أن يقرأوا الفاتحة الآن على عجزهم منذ ثلاثة وثلاثين عاما في تحرير جثة أسير، ويفتشوا معنا عن المفقودين والضائعين والذين اختفت أسماءهم من الوثائق والنصوص، وينسحبوا من بكاءنا الجاف.
أنيس دولة، اسمح لي أن أزورك في الضياع، خرجت من السجن ومن التراب، الآن أراك أكثر، مقيداً من يديك، رصاصات في جسدك، عذابات تسيل من دمك، أرى داخلك يكمل خارجك: شجراً ومطراً ورائحة صلاة.
أنت الأسير الشهيد العائد من الحقيقة إلى الحقيقة، وهم المحتلون التائهون بلا دليل والغارقون في الخطيئة، أنت لم تمت عابرا في حادثة، بل في انشغالك بترميم غدك كي تتوازن نسبة السخونة في دمك مع نسبة الإيقاع في حلمك فوق سبع سماوات عاليات يقفن فوق سبع جبال شامخات هي دعاء أمك الراضية.
ليس صحيحا أن الشهداء ينقرضون، وأن النهاية تبدأ بالموت، ما دامت دولة الاحتلال تخاف من الأموات فهي من علامات ساعتها القاسية، فالقتلة دائما يعودون إلى معسكراتهم خائبين، والشهداء يعودون إلى بيوتهم أحراراً سالمين.
الآن اقرأ باسمك نشيد عسقلان،نشيدك الأول، في قاعة المحكمة العليا الصهيونية :
عسقلان عسقلان عسقلان
في لهيب الدم حدث يا زمان
عن رجال عن جباه لا تهان
نحن شعب ليس فينا من ذليل
ما سما نذل ولا ساد جبان
عسقلان عسقلان عسقلان

(المصدر: وكالة معاً الإخبارية، 10/3/2013)