الأسير كريم يونس .. لا بأس البحر يغضب أحيانا ‏

بقلم :عيسى قراقع
وزير شؤون الأسرى والمحررين

هنا، على هذه الخارطة حيث كان يعيش الشعب الفلسطيني انطلقت الحضارات ومشى الأنبياء برا وبحرا ‎‎واكتشفوا السماء، وأطلقوا في اللغة ماء الينابيع وفي البحر تبدل الموجات حبا وغضبا، سخونة وبرودة، وخمس ‎‎حواس للعاصفة.‏ هنا تحت الرمش يقف الأسير كريم يونس، قوام رجل مفكر متأمل يمد يدا إلى القدس وأخرى ‎‎إلى حيفا ويأبى أن يجتمع إلا مكتملا حيا أو قتيلا وفي الحالتين حرا إلى الحياة أو الممات.
لم يفرج عن الأسير ‎‎كريم يونس ابن قرية عرعرة الواقعة في أراضي الـ ‏1948‏ الأقدم في سجون الاحتلال، وهو الذي حذرنا ‎‎من الوقوع في مصيدة الجغرافيا والحزبية، وتطلع إلى الدخول إلى بيته كفلسطيني الهوية واسما وروحا وانتماء، ‏وانتظر أن ينكسر الشرط الاحتلالي، ليعانق أمه المريضة وقد توضأت وصلت الفجر وأقبلت على حلمها قبل أن ‎‎تتناول الدواء.‏ كريم يونس ألبسوه البذلة الحمراء بعد أن حكموا عليه بالإعدام، وما بين حبل المقصلة وثلاثين ‎‎عاما خلف القضبان استمر في تدريب الجسد على لون الصرخة وطعم الشهقة وأقرب طريق إلى الحياة.‏ نجا من ‎‎السقوط في العتمة وانشغل في الصعود إلى جبل الكرمل بالإيقاعات الاستعارات السجينة، يحمل ‎‎كثافة الغيم وما فيه من آثار الظلم وصوت القرى المنكوبة، ومن كل ضوء يبدأ.‏ واقفا واقفا، لم يقع في هذه ‎‎الزنزانة أو ذلك السجن، لم تخنقه قذائف الغاز وعصي قوات نحشون وصمت الجدران وفراغ الفراغ، لقد أرشد ‎‎الصمت إلى باب الخروج محاولا أن يجد حلا لسوء التفاهم بين أحكام ومبادئ حقوق الإنسان وأسرى الحرية، ‎‎لعل ضمير العالم يصحو وينتبه إلى قاتل يختبئ في المرآة.
كريم يونس لم يجد اسمه في قوائم المفرج عنهم، لم ‎‎تشمله الصفقة، فخرج إلى الساحة يركض في تلك الدائرة المحاصرة والمشيكة والتي تسمى فورة، يبحث عن ‎‎قدميه وعن يديه وكأس الماء، واستمع إلى قلبه تحت القميص البني، وتأكد أنه وقلبه وحيدان في هذا السجن ‏عليهما اجتياز الكوابيس وتواصل الجري والخفقان للوصول إلى الأحياء.
تطلع كريم إلى مروان البرغوثي وأحمد ‏سعدات وخالد الأزرق وعيسى عبد ربه ووليد دقة وعباس السيد ØŒ فوجدهم يقرأون سورة الفاتحة ‎‎على الراحلين والقادمين ويحدقون في عيني السجان طويلا قبل أن يغلق على الغد أساطيره المريبة.
كريم يونس ‎‎لا بأس، البحر قد يغضب أحيانا، يكبر ويتسع ويلقي ما في قاعه من تاريخ وبقايا بشر وعلامات وكبرياء وفتوة ‏التباهي بين الهدوء والغضب، ويرفع مكانة الجسد إلى مرتبة الانتباه فيزداد ويمتلئ بالصحو وبالغيم ليصل ‎‎الكمال.‏ قرأت رسالتك إلى الناس، كنت تودع أصدقاءك وتلملم حاجياتهم عن الابراش، تحتفظ بصورهم ‎‎ورسائلهم وخربشاتهم وأنفاسهم، وتقول لهم ذوبوا في الجمال وفي النهار واغتسلوا ببحر عكا حتى ترمم الجهة ‎‎الضائعة في هذا العدم وذاك النسيان، وتجدونا هناك.‏ وقال: سلموا على والدتي وقولوا لأبي علي منصور أن لا ‎‎يحزن، فكل خريف يعقبه شتاء، وكل شتاء له حرية الاختيار بين برق ورعد ومطر وشكل مختلف في الوصول.
‏ضعوا أيها الأسرى المحررون قمرا على كل مدينة، وزيتونة في كل حقل واذكرونا، وأما نحن فسنجعل الليل ‎‎عافيتنا في الإشراق والتخلص من حمى السجن نحو رؤيا أخرى كي تعود إلينا السكينة.‏ ضعوا أيها الأسرى ‎‎المحررون أسماءنا في كل نص ودفتر وذاكرة، ولملمونا من الهامش كي يرانا البعيد والقريب ضحايا ‎‎حرب لم تنته وجنودا لم يخلعوا إرادتهم العنيدة. هو السجن أعلى أشكال الاحتلال، الموت البطيء، المنفى بلا ‎‎ماض ولا مستقبل شمس يتيمة، رائحة ليل وسعال وحلم مخيف، حنين فولاذي بلا أولاد وبنات وأغان جميلة.‏ ‏هو السجن، لا زمن فيه ولا مواعيد، جفاف القلب، إمعان في القتل وتجريد من قدرتك على الاستغاثة إن ‎‎مرضت أو اشتقت أو طاف بك الحنين.‏ كريم يونس لا بأس، قد يغضب البحر أحيانا، وأنت من تجيد لعبة ‎‎الأقدار، عالم آخر يتشكل الآن أمامك أحلى، مصنوع بيديك، Ùˆ قادر أن تطلق النداء الكافي لتتضح وجهة النداء.

(المصدر: صحيفة القدس الفلسطينية، 20/10/2011)