المحرر المبعد الكركي: قبورنا فتحت علينا وقد بعثنا من جديد

"كم‎ ‎هي صعبة‎ ‎وقاسية‎ ‎جدا‎ ‎حياة‎ ‎السجون،‎ ‎كم‎ ‎ذقنا فيها‎ ‎من‎ ‎المرارة‎ ‎والألم‎ ‎‎والحرمان‎ ‎لدرجة‎ ‎أنك بإمكانك‎ ‎أن‎ ‎تتخيل‎ ‎لا‎ ‎بل‎ ‎أن‎ ‎تتأكد‎ ‎أن‎ ‎السجون كانت‎ ‎عبارة‎ ‎عن‎ ‎قبور‎ ‎خرجنا‎ ‎منها‎ ‎بعد‎ ‎‎سنوات من‎ ‎الموت‎ ‎والغيبة،‎ ‎فها‎ ‎نحن‎ ‎قد‎ ‎بعثنا‎ ‎من جديد".. ‎ بهذه‎ ‎العبارات‎ ‎لم‎ ‎يستطع‎ ‎الأسير المحرر‎ ‎رجائي‎ ‎‎الكركي‎ ‎أن‎ ‎يخفي‎ ‎دمعة‎ ‎أبت‎ ‎إلا وأن‎ ‎تناسب‎ ‎من‎ ‎مقلتيه‎ ‎وهو‎ ‎يصف‎ ‎واقع‎ ‎السجون،‎ ‎ومدى‎ ‎الظلم‎ ‎‎والحرمان‎ ‎فيها.‎
المحرر‎ ‎الكركي‎ ‎أفرج‎ ‎عنه‎ ‎ضمن‎ ‎صفقة‎ ‎تبادل الأسرى‎ ‎الأخيرة‎ ‎ولكن‎ ‎ليس‎ ‎إلى‎ ‎مسقط‎ ‎رأسه ‏الخليل‎ ‎بل‎ ‎إلى‎ ‎غزة،‎ ‎أجاب‎ ‎‎عن‎ ‎سر‎ ‎هذه‎ ‎الدمعات التي‎ ‎تنساب‎ ‎على‎ ‎‎وجنتيه‎ ‎التي‎ ‎اكتست‎ ‎بلحيته السوداء: "هذه‎ ‎ليست‎ ‎على‎ ‎ما‎ ‎ذقته‎ ‎من‎ ‎ألم وحرمان،‎ ‎فلحظة‎ ‎واحدة‎ ‎في‎ ‎غزة‎ ‎ونظرة‎ ‎‎إلى استقبال‎ ‎أهلها‎ ‎الكرماء‎ ‎أنستني‎ ‎كل‎ ‎وجع‎ ‎تلك الأيام‎ ‎والسنوات‎ ‎الاحدى‎ ‎عشر‎ ‎التي‎ ‎قضيتها‎ ‎في قبور‎ ‎الاحتلال‎ ‎‎الإسرائيلي،‎ ‎لكن‎ ‎هي‎ ‎الدمعات تنساب‎ ‎على‎ ‎رجال‎ ‎عظماء‎ ‎وكبار‎ ‎تركناهم‎ ‎خلفنا في‎ ‎السجون‎ ‎ليكملوا‎ ‎مشوار‎ ‎هذه‎ ‎‎المرارة‎ ‎بلا‎ ‎أدنى سقف‎ ‎زمني‎ ‎تحدده‎ ‎الأيام‎ ‎ليبعثوا‎ ‎من‎ ‎قبورهم من‎ ‎جديد‎ ‎كما‎ ‎بُعثنا‎ ‎نحن".

بطاقة‎ ‎شخصية
وعرف‎ ‎‎الكركي‎ ‎نفسه‎ ‎قائلا: "اسمي‎ ‎رجائي سعدي‎ ‎الكركي) ‎‏34‏‎ ‎عاما(‎ØŒ‎ ‎من‎ ‎مدينة‎ ‎خليل الرحمن،‎ ‎أعزب،‎ ‎توفي‎ ‎والدي‎ ‎‎بعد‎ ‎سبعة‎ ‎شهور من‎ ‎زجي‎ ‎في‎ ‎السجون‎ ‎‎وكانت‎ ‎قد سبقته‎ ‎إليه‎ ‎والدتي‎ ‎قبل‎ ‎سجني،‎ ‎لي‎ ‎خمسة من‎ ‎الإخوة‎ ‎‎Ùˆ‎ ‎‏12‏‎ ‎من‎ ‎الأخوات". وأضاف: "اعتقلت‎ ‎لسنتين‎ ‎عندما‎ ‎كان عمري‎ ‎فقط‎ ‎‏16‏‎ ‎عاماً‎ ‎بتهمة‎ ‎الانتماء‎ ‎لحركة ‏حماس،‎ ‎والقيام‎ ‎بإلقاء‎ ‎الحجارة‎ ‎على‎ ‎قوات الاحتلال‎ ‎في‎ ‎مدينة‎ ‎الخليل،‎ ‎وبعدها‎ ‎خرجت بانتهاء‎ ‎مدة‎ ‎محكوميتي". وقال‎ ‎الكركي‎ ‎عن‎ ‎كيفية‎ ‎اعتقاله‎ ‎الأخيرة وما‎ ‎هي‎ ‎التهمة‎ ‎التي‎ ‎سُجلت‎ ‎ضده: "مع‎ ‎انطلاق انتفاضة‎ ‎الأقصى‎ ‎المباركة،‎ ‎وبعد‎ ‎اشتعالها بشهرين‎ ‎وفي‎ ‎تاريخ‎ ‎‏8‏/ ‎‏12‏ / ‎‏2000‏‎ ‎بالتحديد، تمكنت‎ ‎ومعي‎ ‎اثنين‎ ‎من‎ ‎الإخوة‎ ‎من‎ ‎تشكيل ‏خلية‎ ‎عسكرية‎ ‎وقمنا‎ ‎بتنفيذ‎ ‎أول‎ ‎عملية‎ ‎ضد الاحتلال‎ ‎في‎ ‎مدينة‎ ‎الخليل‎ ‎وتمكنا‎ ‎خلالها‎ ‎من قتل‎ ‎اثنين‎ ‎من‎ ‎‎المستوطنين‎ ‎وجرح‎ ‎آخرين،‎ ‎إلا‎ ‎أنه من‎ ‎المؤسف‎ ‎تم‎ ‎اعتقالنا‎ ‎بعد‎ ‎أيامٍ‎ ‎قليلة‎ ‎من‎ ‎هذه العملية".
وأضاف: "كنت‎ ‎أنوي‎ ‎‎الخروج‎ ‎للأردن ومنها‎ ‎لفرنسا‎ ‎لتعلم‎ ‎اللغة‎ ‎الفرنسية،‎ ‎وأنا‎ ‎خارج عبر‎ ‎معبر‎ ‎الكرامة‎ ‎تم‎ ‎اعتقالي‎ ‎هناك". وتابع: "وعندما‎ ‎اعتقلوني‎ ‎أدخلوني‎ ‎إلى التحقيق‎ ‎حيث‎ ‎الشبح‎ ‎والتعذيب‎ ‎الذي‎ ‎بات‎ ‎لم يخف‎ ‎على‎ ‎أحد،‎ ‎حيث‎ ‎مكثت‎ ‎بالتمام‎ ‎‎والكامل ‏99‏‎ ‎يوما‎ ‎في‎ ‎تحقيق‎ ‎الزنازين‎ ‎مر‎ ‎علي‎ ‎فيها رمضان‎ ‎والعيدان‎ ‎الفطر‎ ‎والأضحى".

الحياة‎ ‎بعد‎ ‎الموت
ويروي‎ ‎المحرر‎ ‎الكركي،‎ ‎حادثة‎ ‎لا‎ ‎تنسى‎ ‎عاش فصولها‎ ‎في‎ ‎سجون‎ ‎الاحتلال‎ ‎حيث‎ ‎قال: "بعد اعتقالي‎ ‎ب‎ ‎‏7‏‎ ‎‎شهور‎ ‎توفي‎ ‎والدي‎ ‎مما‎ ‎كان‎ ‎له‎ ‎أثر مؤلم‎ ‎على‎ ‎نفسي،‎ ‎وبعدها‎ ‎بشهر‎ ‎واحد‎ ‎فقط، حصل‎ ‎معي‎ ‎حادث‎ ‎عجيب،‎ ‎حيث‎ ‎‎كنت‎ ‎أعمل حلاقاً‎ ‎للأسرى‎ ‎في‎ ‎السجن‎ ‎وأثناء‎ ‎العمل‎ ‎في تنظيف‎ ‎المكان‎ ‎وقعت‎ ‎على‎ ‎رأسي‎ ‎وفقدت‎ ‎الوعي مباشرة‎ ‎‎ونقلت‎ ‎إلى‎ ‎مستشفى‎ ‎عسقلان،‎ ‎وبعدها عجزوا‎ ‎أن‎ ‎يسعفوني‎ ‎هناك‎ ‎ونقلت‎ ‎فوراً‎ ‎إلى مستشفى‎ ‎سوروكا‎ ‎عبر‎ ‎‎طائرة‎ ‎عمودية". وتابع: "وبمستشفى‎ ‎سوروكا‎ ‎اكتشفوا‎ ‎أن‎ ‎شريان انفجر‎ ‎بالدماغ‎ ‎وأجريت‎ ‎لي‎ ‎عملية‎ ‎استمرت‎ ‎‏10‏‎ ‎‎ ‎ساعات‎ ‎متواصلة،‎ ‎وبعدها‎ ‎تم‎ ‎الإعلان‎ ‎أنني قد‎ ‎دخلت‎ ‎في‎ ‎حالة‎ ‎موت‎ ‎سريري‎ ‎ودخلت‎ ‎في غيبوبة‎ ‎مدتها‎ ‎‏38‏‎ ‎ساعة‎ ‎‎ومن‎ ‎ثم‎ ‎بفضل‎ ‎الله بعد‎ ‎استيقظت‎ ‎وكنت‎ ‎حينها‎ ‎في‎ ‎العناية المكثفة،‎ ‎وكان‎ ‎هناك‎ ‎ذهول‎ ‎منقطع‎ ‎النظير‎ ‎من ‏الأطباء‎ ‎واقترب‎ ‎لي‎ ‎بروفيسور‎ ‎صهيوني‎ ‎ومسؤول الطاقم‎ ‎الطبي‎ ‎وقال‎ ‎حرفياً: "بدي‎ ‎أقول‎ ‎لك‎ ‎كلمة واحدة،‎ ‎في‎ ‎علم‎ ‎‎الطب‎ ‎يجب‎ ‎أن‎ ‎تكون‎ ‎في‎ ‎عداد الأموات‎ ‎وإذا‎ ‎قدرت‎ ‎لك‎ ‎الحياة‎ ‎تعيش‎ ‎مشلول الجسد‎ ‎بالكامل". وقال: "وحكى‎ ‎‎لي‎ ‎العبارة قائلاً: "مثل‎ ‎أحمد‎ ‎ياسين،‎ ‎فقال‎ ‎لي "‎أنت‎ ‎الله أعطاك‎ ‎حياة‎ ‎جديدة‎ ‎فقط."‎

حياة‎ ‎الذل‎ ‎والحرمان
ووصف‎ ‎‎المحرر‎ ‎الكركي‎ ‎حياة‎ ‎الذل‎ ‎والحرمان التي‎ ‎يعيشها‎ ‎الأسرى‎ ‎في‎ ‎سجون‎ ‎الاحتلال، وتحدث‎ ‎عن‎ ‎رداءة‎ ‎الطعام‎ ‎‎هناك‎ ‎وتقليصه بشكل‎ ‎قليل‎ ‎جدا‎ ‎فأسهب‎ ‎قائلاً: "تخيل‎ ‎عندما يأتونك‎ ‎في‎ ‎السجن‎ ‎بحبة‎ ‎واحدة‎ ‎الباذنجان كل‎ ‎‏10‏‎ ‎أو‎ ‎‎‏15‏‎ ‎يوما‎ ‎لعشرة‎ ‎من‎ ‎الأسرى،‎ ‎وكذلك الخضروات‎ ‎الأخرى"‎ØŒ‎ ‎وتحدث‎ ‎عن‎ ‎طرافة‎ ‎بعض المواقف‎ ‎حيث‎ ‎قال: "عندما‎ ‎كانوا‎ ‎يأتوننا‎ ‎بحبة الباذنجان‎ ‎كنا‎ ‎نقبلها‎ ‎فرداً‎ ‎فرداً‎ ‎ونضعها‎ ‎جانباً ننتظر‎ ‎أختها‎ ‎حتى‎ ‎نستطيع‎ ‎أن‎ ‎نصنع‎ ‎منها ‏شيئا‎ ‎يكفينا".

لحظة‎ ‎النجاة
شكلت‎ ‎حادثة‎ ‎أسر‎ ‎الجندي"‎جلعاد‎ ‎شاليط" ‎على‎ ‎يد‎ ‎المقاومة‎ ‎الفلسطينية في‎ ‎‎غزة‎ ‎طوق‎ ‎النجاة‎ ‎لكل‎ ‎أسير‎ ‎في‎ ‎سجون الاحتلال،‎ ‎وعن‎ ‎هذا‎ ‎قال‎ ‎المحرر‎ ‎الكركي: "لحظة سماعنا‎ ‎للخبر‎ ‎اختلطت‎ ‎‎المشاعر‎ ‎ودوت‎ ‎السجون بالصراخ‎ ‎والبكاء‎ ‎والفرح‎ ‎ووزعنا‎ ‎الحلوى وسجدنا‎ ‎لله‎ ‎شكرنا،‎ ‎وأخيراً‎ ‎‎وجدنا‎ ‎من‎ ‎ينظر إلينا‎ ‎في‎ ‎بئرنا‎ ‎الذي‎ ‎نسوه‎ ‎الناس".
الجمعة الأخيرة‎ ‎وما‎ ‎أدراك‎ ‎ما‎ ‎الجمعة‎ ‎الأخيرة‎ ‎فقد كانت‎ ‎‎جمعة‎ ‎البكاء،‎ ‎فلم‎ ‎يبق‎ ‎أسير‎ ‎في‎ ‎السجن إلا‎ ‎وبكى‎ ‎وانتحب‎ ‎الأحباب‎ ‎جميعهم،‎ ‎على‎ ‎فراق أحبة‎ ‎وبقاء‎ ‎آخرين،‎ ‎فكان‎ ‎‎الأسير‎ ‎المحرر‎ ‎معاذ بلال‎ ‎يحرك‎ ‎بكلماته‎ ‎مشاعر‎ ‎كل‎ ‎أسير‎ ‎فتراه يبكي‎ ‎بكاء‎ ‎حارا‎ ‎لا‎ ‎ينفك‎ ‎عنه‎ ‎أبداً"... ‎هكذا ‏وصف‎ ‎الأسير‎ ‎المحرر‎ ‎صلاة‎ ‎يوم‎ ‎الجمعة‎ ‎الأخيرة في‎ ‎السجون‎ ‎قبل‎ ‎الرحيل‎ ‎عنها‎ ‎وترك‎ ‎أحبة‎ ‎لهم هناك‎ ‎يواصلون‎ ‎‎المشوار.‎‏ وقال‎ ‎الكركي: "مضت‎ ‎الأيام‎ ‎بنا‎ ‎ثقيلة جداً‎ ‎وكانت‎ ‎أقسى‎ ‎وأصعب‎ ‎أيام‎ ‎مرت‎ ‎علينا وهي‎ ‎ما‎ ‎بيني‎ ‎‎الإعلان‎ ‎عن‎ ‎الصفقة‎ ‎وتنفيذها، فكانت‎ ‎مرة‎ ‎نسارع‎ ‎فيها‎ ‎الدقائق‎ ‎والثواني ونرجو‎ ‎الساعة‎ ‎أن‎ ‎تسرع‎ ‎حتى‎ ‎نخرج‎ ‎‎من‎ ‎هذه القبور".
"‎قبورنا‎ ‎فتحت‎ ‎علينا‎ ‎وقد‎ ‎بعثنا‎ ‎من جديد"... ‎ هكذا‎ ‎أراد‎ ها

(المصدر:صحيفة القدس الفلسطينية)