المحرر جاسر البرغوثي يروي تفاصيل التحرر والإستقبال في غزة

"‎لم‎ ‎يخيل‎ ‎لي‎ ‎أبداً‎ ‎أن‎ ‎أجد‎ ‎نفسي‎ ‎داخل‎ ‎قطاع غزة، فقد‎ ‎كان‎ ‎هذا‎ ‎آخر‎ ‎خياراتي، ولكن‎ ‎ما‎ ‎‎شهدته‎ ‎من‎ ‎روعة‎ ‎الاستقبال ودفء‎ ‎المشاعر‎ ‎وجمال‎ ‎غزة‎ ‎وأهلها‎ ‎صدمني‎ ‎وجعلني‎ ‎أدرك‎ ‎أنها‎ ‎عنوان‎ ‎الحب والعزة،‎ ‎وأن‎ ‎شاطئ‎ ‎بحرها‎ ‎يغمر‎ ‎كل‎ ‎من‎ ‎زارها‎ ‎بحبه‎ ‎وحنانه". بهذه‎ ‎الكلمات‎ ‎تحدث‎ ‎الأسير‎ ‎المحرر‎ ‎جاسر‎ ‎البرغوثي، ‏38‏‎ ‎عاما، عن قطاع‎ ‎غزة‎ ‎الذي‎ ‎احتضنه‎ ‎منذ‎ ‎لحظة‎ ‎الإفراج‎ ‎ضمن‎ ‎صفقة‎ ‎تبادل‎ ‎الأسرى حيث‎ ‎أبدى‎ ‎ومن‎ ‎معه‎ ‎‎من‎ ‎المحررين‎ ‎المبعدين‎ ‎سعادتهم‎ ‎الغامرة‎ ‎لوجودهم في‎ ‎غزة‎ ‎رغم‎ ‎الغصة‎ ‎التي‎ ‎تنتابهم‎ ‎لبعدهم‎ ‎عن‎ ‎أهلهم.‎‏ وجاسر‎ ‎‎إسماعيل‎ ‎البرغوثي‎ ‎من‎ ‎مدينة‎ ‎رام‎ ‎الله‎ ‎وهو‎ ‎محكوم‎ ‎‏8‏‎ ‎مؤبدات بتهمة‎ ‎تأسيس‎ ‎مجموعات‎ ‎لكتائب‎ ‎الشهيد‎ ‎عز الدين‎ ‎‎القسام‎ ‎ساهَمت‎ ‎في قتل‎ ‎‏18‏‎ ‎صهيونياً‎ ‎وأمضى‎ ‎‏8‏‎ ‎سنوات‎ ‎من‎ ‎مدة‎ ‎الحكم.‎

زلزال‎ ‎الصفقة
وأشار‎ ‎البرغوثي‎ ‎إلى‎ ‎أن‎ ‎‎الأمل‎ ‎كان‎ ‎ضئيلاً‎ ‎لدى‎ ‎الأسرى‎ ‎بأن‎ ‎يتحرروا‎ ‎ضمن صفقة‎ ‎تبادل‎ ‎وبخاصة‎ ‎من‎ ‎ذوي‎ ‎المؤبدات‎ ‎والأحكام‎ ‎العالية، ولكن‎ ‎مجريات الصفقة‎ ‎عززت‎ ‎الأمل‎ ‎بأنهم‎ ‎سينعمون‎ ‎بالحرية‎ ‎وبدأوا‎ ‎بتتبع‎ ‎القنوات العربية‎ ‎والعبرية‎ ‎وتعطلت‎ ‎كل‎ ‎‎الأمور‎ ‎التنظيمية‎ ‎داخل‎ ‎السجن‎ ‎ومنها‎ ‎أن بعض‎ ‎الأسرى‎ ‎خرجوا‎ ‎من‎ ‎الحمامات‎ ‎دون‎ ‎أن‎ ‎يلتزموا‎ ‎بزي‎ ‎السجن‎ ‎‎واكتفوا بلف‎ ‎المناشف‎ ‎على‎ ‎خصورهم‎ ‎حتى‎ ‎يتمكنوا‎ ‎من‎ ‎سماع‎ ‎أخبار‎ ‎الصفقة.‏ وأضاف: "زلزل‎ ‎خبر‎ ‎إتمام‎ ‎الصفقة‎ ‎‎أرجاء‎ ‎السجن، وأصبح‎ ‎الكل‎ ‎يترقب وكان‎ ‎خفقان‎ ‎القلب‎ ‎يزداد‎ ‎بشكل‎ ‎ملحوظ‎ ‎وأصبحت‎ ‎الدقائق‎ ‎تمضي‎ ‎بطيئة جداً‎ ‎‎.. كنا‎ ‎ننتظر‎ ‎أن‎ ‎تأتي‎ ‎إدارة‎ ‎السجن‎ ‎لتخبرنا‎ ‎بما‎ ‎حصل‎ ‎لكن‎ ‎أحداً‎ ‎لم يأت‎ ‎مما‎ ‎أشعرنا‎ ‎بحالة‎ ‎من‎ ‎الإحباط‎ ‎وفي‎ ‎اليوم‎ ‎‎الثاني‎ ‎بدأت‎ ‎ملامح‎ ‎الصفقة تتجسد‎ ‎على‎ ‎أرض‎ ‎الواقع‎ ‎حيث‎ ‎طالبت‎ ‎إدارة‎ ‎السجن‎ ‎من‎ ‎بعض‎ ‎الأسرى ارتداء‎ ‎‎الملابس‎ ‎المدنية‎ ‎وتهيئة‎ ‎أنفسهم‎ ‎فتأكدنا‎ ‎لحظتها‎ ‎أن‎ ‎ما‎ ‎سمعناه‎ ‎كان صحيحاً‎ ‎وأن‎ ‎الصفقة‎ ‎قد‎ ‎تمت.‏ وتابع‎ ‎البرغوثي‎ ‎: "كانت‎ ‎الكلمات‎ ‎عاجزة‎ ‎في‎ ‎تلك‎ ‎اللحظات‎ ‎أن‎ ‎تعبر‎ ‎عما يجول‎ ‎في‎ ‎خواطرنا‎ ‎وعندما‎ ‎عملت‎ ‎أنني‎ ‎ضمن‎ ‎الأسرى‎ ‎‎الذين‎ ‎سيتم‎ ‎الإفراج عنهم‎ ‎شعرت‎ ‎بأنني‎ ‎كنت‎ ‎ميتاً‎ ‎ووهبت‎ ‎لي‎ ‎الحياة‎ ‎من‎ ‎جديد، وجاء‎ ‎حينها خبر‎ ‎إبعادي‎ ‎فأنقص‎ ‎‎فرحتي‎ ‎ولكن‎ ‎ليس‎ ‎بالقدر‎ ‎الكبير‎ ‎لأن‎ ‎ما‎ ‎كان‎ ‎يعنيني هو‎ ‎أن‎ ‎أخرج‎ ‎من‎ ‎تلك‎ ‎السجون‎ ‎الظالمة‎ ‎ومن‎ ‎العزل‎ ‎المتواصل‎ ‎‎.

شعور‎ ‎مزدوج
وعن‎ ‎طريقة‎ ‎تعامل‎ ‎الأسرى‎ ‎المحررين‎ ‎مع‎ ‎رفاقهم‎ ‎الذين‎ ‎لم‎ ‎تشملهم الصفقة، قال‎ ‎البرغوثي: "كانت‎ ‎لحظات‎ ‎عصيبة‎ ‎بالفعل‎ ‎إذ‎ ‎امتزجت‎ ‎قلوبنا بالفرحة‎ ‎الكبيرة‎ ‎لأننا‎ ‎سنتحرر‎ ‎أخيراً‎ ‎والحزن‎ ‎الشديد‎ ‎لأننا‎ ‎سنفارق ‏إخوتنا‎ ‎وأحبابنا‎ ‎وأصبحنا‎ ‎نخفي‎ ‎فرحتنا‎ ‎حفاظاً‎ ‎على‎ ‎مشاعرهم‎ ‎ونشد من‎ ‎أزرهم‎ ‎ونرفع‎ ‎من‎ ‎صمودهم، ولحظة‎ ‎‎خروجنا‎ ‎من‎ ‎السجن‎ ‎سقطت‎ ‎كل الماديات‎ ‎وتجلت‎ ‎القيم‎ ‎الأخلاقية‎ ‎بمعانيها‎ ‎ومشاعرها‎ ‎الحقيقية، فأصبح ‏الكل‎ ‎يتعامل‎ ‎بشفافية‎ ‎وحب‎ ‎وحنان‎ ‎مع‎ ‎الآخر‎ ‎مع‎ ‎نبذ‎ ‎أي‎ ‎خلاف‎ ‎جانباً‎‎ØŒ كان‎ ‎الأسرى‎ ‎يظهرون‎ ‎فرحتهم‎ ‎لخروجنا‎ ‎‎ونحن‎ ‎نظهر‎ ‎الحزن‎ ‎لبقائهم‎ ‎وكنا نقنعهم‎ ‎أننا‎ ‎اعتقلنا‎ ‎لهدف‎ ‎وهو‎ ‎حماية‎ ‎الوطن‎ ‎والحفاظ‎ ‎على‎ ‎كرامته.‏ وتحدث‎ ‎‎البرغوثي‎ ‎عن‎ ‎الابتزاز‎ ‎الصهيوني‎ ‎للأسرى‎ ‎في‎ ‎اللحظات الأخيرة‎ ‎إذ‎ ‎أعد‎ ‎جهاز‎ ‎الشاباك‎ ‎بعض‎ ‎الأوراق‎ ‎‎حتى‎ ‎يوقع‎ ‎عليها‎ ‎الأسرى بأنهم‎ ‎نادمون‎ ‎على‎ ‎ما‎ ‎فعلوا، والتعهد‎ ‎بعدم‎ ‎فعل‎ ‎أي‎ ‎شيء‎ ‎ضد‎ ‎الكيان،‎ ‎لكنهم‎ ‎أجمعوا‎ ‎‎أن‎ ‎لن‎ ‎يوقعوا‎ ‎تلك‎ ‎التعهدات‎ ‎حتى‎ ‎وان‎ ‎اضطرهم‎ ‎الأمر للرجوع‎ ‎إلى‎ ‎السجن‎ ‎مجدداً.‏ وأضاف: "كان‎ ‎جهاز‎ ‎الشاباك‎ ‎‎يحاول‎ ‎أن‎ ‎يوقع‎ ‎الأسرى‎ ‎على‎ ‎تلك‎ ‎الأوراق في‎ ‎أسرع‎ ‎وقت‎ ‎ممكن‎ ‎لأنه‎ ‎لم‎ ‎يتبق‎ ‎وقت‎ ‎على‎ ‎إطلاق‎ ‎سراحهم، ولكنه ‏فشل‎ ‎في‎ ‎ذلك، وفي‎ ‎هذه‎ ‎اللحظات‎ ‎جاء‎ ‎الوفد‎ ‎المصري‎ ‎وطمأن‎ ‎الأسرى‎ ‎بان الجانب‎ ‎الصهيوني‎ ‎لن‎ ‎يتمكن‎ ‎من‎ ‎‎فعل‎ ‎شيء‎ ‎وقال‎ ‎للأسرى: "على‎ ‎الموساد أن‎ ‎يبل‎ ‎تلك‎ ‎الأوراق‎ ‎ويشرب‎ ‎ميتها" ØŒ‎ ‎وشعر‎ ‎الأسرى‎ ‎في‎ ‎تلك‎ ‎اللحظات ‏مدى‎ ‎عظمة‎ ‎الدور‎ ‎المصري‎ ‎الذي‎ ‎جعلهم‎ ‎يفتخرون‎ ‎بعروبتهم.

الفاتورة‎ ‎الصهيونية
وشدد‎ ‎البرغوثي‎ ‎على‎ ‎أن‎ ‎‎المحررين‎ ‎خرجوا‎ ‎وهم‎ ‎مصممون‎ ‎على‎ ‎مواصلة درب‎ ‎الكفاح، وقال: "نحن‎ ‎لم‎ ‎نندم‎ ‎على‎ ‎ما‎ ‎فعلناه، كان‎ ‎عندي‎ ‎‎حقد‎ ‎على الاحتلال‎ ‎وزاد‎ ‎هذا‎ ‎الحقد‎ ‎بعد‎ ‎سنوات‎ ‎الأسر‎ ‎القاسية‎ ‎وزادت‎ ‎الفاتورة‎ ‎التي ستدفعها‎ ‎دولة العدو.‏ وعن‎ ‎‎لحظة‎ ‎الخروج‎ ‎من‎ ‎السجن‎ ‎قال: "جمعونا‎ ‎في‎ ‎قسم‎ ‎والتقى‎ ‎جميع الأسرى، كانت‎ ‎لحظات‎ ‎مثيرة‎ ‎ورائعة‎ ‎جداً، وبعد‎ ‎‎أن‎ ‎خرجنا‎ ‎من‎ ‎بوابات السجن‎ ‎التزمت‎ ‎الصمت‎ ‎وكان‎ ‎قلبي‎ ‎يسبقني‎ ‎مئات‎ ‎الأمتار‎ ‎أمام‎ ‎الحافلات التي‎ ‎كانت‎ ‎تقلنا‎ ‎‎وكأنه‎ ‎ينتظرني‎ ‎حتى‎ ‎أصل‎ ‎إليه، كان‎ ‎الوقت‎ ‎يمضي‎ ‎ببطء شديد‎ ‎وكنا‎ ‎غير‎ ‎مستوعبين‎ ‎لما‎ ‎يجري‎ ‎حتى‎ ‎تلك‎ ‎اللحظة‎ ‎‎.‏ وأشار‎ ‎إلى‎ ‎أن‎ ‎الأسرى‎ ‎لم‎ ‎يصدقوا‎ ‎أن‎ ‎حكومة الاحتلال‎ ‎أذعنت‎ ‎بالفعل‎ ‎لاملاءات المقاومة‎ ‎فهذا‎ ‎يعد‎ ‎هزيمة‎ ‎لها‎ ‎ليس‎ ‎بعدها‎ ‎‎هزيمة، وانتصاراً‎ ‎حقيقياً للمفاوضين‎ ‎الذين‎ ‎ثبتوا‎ ‎على‎ ‎مطالبهم‎ ‎وصمدوا‎ ‎حتى‎ ‎تحققت.‏ وتابع‎ ‎وصف‎ ‎حالة‎ ‎‎الأسرى‎ ‎لحظة‎ ‎وصولهم‎ ‎للجانب‎ ‎المصري: "كنا‎ ‎نشك في‎ ‎آخر‎ ‎لحظات‎ ‎بأننا‎ ‎سنرجع‎ ‎إلى‎ ‎السجن‎ ‎ولكن‎ ‎هدأت‎ ‎قلوبنا‎ ‎‎واطمأنت عندما‎ ‎دخلنا‎ ‎الجانب‎ ‎المصري، فأخذنا‎ ‎نهتف‎ ‎لجمهورية‎ ‎مصر‎ ‎الشقيقة التي‎ ‎عادت‎ ‎وبقوة‎ ‎إلى‎ ‎ريادة‎ ‎‎الأمة‎ ‎العربية.‏ وعن‎ ‎لحظة‎ ‎دخول‎ ‎الأسرى‎ ‎غزة‎ ‎قال: "لم‎ ‎أتخيل‎ ‎مطلقاً‎ ‎غزة‎ ‎بهذا‎ ‎الشكل‎‎ØŒ كانت‎ ‎مفاجئة‎ ‎لم‎ ‎أتخيلها‎ ‎‎في‎ ‎يوم‎ ‎من‎ ‎أيام‎ ‎حياتي.. رأيت‎ ‎غزة‎ ‎بأكملها‎ ‎قد خرجت‎ ‎لاستقبالنا‎ ‎مع‎ ‎أن‎ ‎أهلها‎ ‎لا‎ ‎يعرفوننا‎ ‎شخصياً، لحظتها‎ ‎‎نسيت‎ ‎أنني مبعد‎ ‎وتأكدت‎ ‎أنني‎ ‎في‎ ‎وطني، وأنساني‎ ‎ذلك‎ ‎اللقاء‎ ‎آلامي‎ ‎التي‎ ‎قاسيتها خلال‎ ‎سنوات‎ ‎الاعتقال.

 (المصدر: صحيفة القدس الفلسطينية، 25/10/2011)