أسرى يطردون عتمة الزنازين بهواء البحر وآخرون يتندرون ويحاولون اختبار حريتهم

تبدو في عيونهم الدهشة، ويلوح في سلوكهم الغياب، أجسادهم هنا لكن أرواحهم لا تزال هناك، يتعايشون مع الواقع بأمل بعد أن كادوا يفقدونه، تهرب الكلمات من أفواههم لتبقى لغة الملامح والحركات .
يقول أحدهم إنه كان في عداد الموتى، وفجأة أصبح بين أهله، كان تحت الأرض بعيداً عن الحياة وفجأة أصبح تحت الشمس يستنشق هواء البحر، معتبرا أنه بحاجة إلى بعض الوقت ليستوعب الحياة الحقيقية من جديد .
يعيش الأسير المحرر رجائي الكركي من سكان مدينة الخليل الحالة نفسها، فهو يقضي وقته الآن في فندق "المشتل" على شاطئ غزة برفقة عشرات من الأسرى المحررين لليلة الثالثة على التوالي، بعد الإفراج عنهم والوصول إلى قطاع غزة.
يقول الكركي وهو يتأمل المشهد الطبيعي للبحر الذي يطل عليه من الفندق: كلما تعلقت عيناي بالمشهد الجميل أمامي أحس فجأة وكأنهما تصطدمان بجدران الزنازين والمعتقل، فأستيقظ من هيامي بالمشهد وكأنني أحيا حلما أحتاج إلى وقت كي أقتنع بواقعيته.
وأوضح بينما كان يتهيأ لتناول طعام الإفطار في الفندق أن كل شيء هنا على النقيض تماماً مع الزنزانة، لافتا إلى أن المرء يبتسم وهو يتجول في ردهات الفندق غير مصدق ما يدور حوله.
وقال: بالأمس كنت في زنزانة ارتفاعها متر ونصف وعرضها متر، واليوم أنا في فندق كبير المساحة، الخدمات من حولي تجعلني أضحك كلما تذكرت حياتي قبل أيام ثلاثة فقط، معتبرا أن الولادة الجديدة له أشبه ببث روح أخرى في جسده الذي كادت تغتاله الزنازين.
وأقام عشرات من الأسرى المحررين من أبناء الضفة الغربية في فندق الكومودور وفلسطين والمشتل برفقة عائلاتهم التي وصلت إلى القطاع، ولم تتمكن عائلات أخرى من الوصول إلى أبنائها المحررين لأسباب مختلفة، بينما عاد الأسرى المحررون من سكان قطاع غزة إلى منازلهم وذويهم.
الأسيرة المحررة وفاء البس من سكان مدينة جباليا وهي الوحيدة التي وصلت قطاع غزة من الإناث لم تكتف بالبكاء عندما احتضنت صديقاتها اللواتي غابت عنهن ست سنوات، فقد غلبت العشوائية والانفعالية على سلوكها لشدة الدهشة والفرحة، وقالت إنها لم تستوعب بعد أنها في منزلها ومدينتها وبين أهلها، وأنها لن تعود للمعتقل مرة أخرى، مردفة أن الإفراج عنها كان أشبه بحلم لم تستيقظ منه بعد.
راحت وفاء تسأل العديد من زوارها عن أسمائهم وهي ترمقهم بدهشة، مستعيدة معهم ذكريات السنوات الماضية.
قالت البس ل "الأيام": إنها لم تنم بعد بشكل طبيعي، ليس بسبب الزوار والمهنئين، بل لأنها إلى أنهاً لم تستوعب بعد الحياة الجديدة، ولم تستوعب بعد أنها بين الأهل والأحباب، مشيرة تضحك من كل قلبها، وتأمل ألا تهرب من عينيها البسمة التي ظنت أنها قد تبددت.
الأسير المقدسي خالد طه لا يزال هو الآخر قيد الحلم والصدمة، مشيراً إلى أنه يبتسم كلما لمس أي شيء في الفندق الذي يقيم فيه، مستعيدا حياة المعتقل وسوء الحياة هناك، بينما لا يكف عن تبادل النكات مع زملائه من واقع المقارنة بين الحياة في الفندق والحياة في الزنازين.
وقال بعد أن تلقى مكالمة هاتفية من أحد أقاربه وصف له خلالها الحياة في الفندق الذي يسكن فيه مؤقتاً في غزة إنه اعتاد صلف الحياة وإتمام أموره بنفسه والعيش دون مستوى الحياة الآدمية في سجون الاحتلال، مضيفا أنه بعد أن عاش في الفندق ثلاث ليال متوالية شعر بمتعة الحلم، وأدرك أن الأمل أقوى من اليأس والقنوط.
أخذ طه يضحك ويضحك من النقلة النوعية من الأسر والزنازين إلى الحرية والفنادق الفخمة مرة واحدة، مشيراً إلى أنه دائماً يبتسم للقدر ويشكر الله على نعمته وهبة الإفراج عن الأسرى المحررين.
ورغم أن الأسرى المحررين استقبلوا في غزة استقبالا يليق بهم، حيث حملهم الكل على أكف الراحة، إلا أنهم لا زالوا يعيشون الحلم، ويحتاجون وقتا لتناسي حياة الاعتقال والزنازين والأسر والإضرابات والعزل الانفرادي وغيرها من أساليب الاحتلال لتضييق العيش عليهم .

(المصدر: جريدة الأيام الفلسطينية، 21/10/2011)