نائل البرغوثي...رسائل من نوع خاص

بقلم: وليد الهودلي

نائل البرغوثي عميد الاسرى المحررين أخيرا فتح له باب الزواج بعد أن مضى من عمره أربعاً وخمسين عاما.. وقد كان زواجه الأول عندما التحمت روحه بروح الوطن وعندما أقام عرسا سماويا ملأت رومانسياته أركان صدره وحملت قلبه على أن يجند كل مشاعره في طلب المعشوق.. انطلقت كل خلجات صدره وكل ومضات قلبه لتحرك إرادة حرة أبية كريمة لتخطب وداد أجمل معشوق وأنبل ما يتقرب اليه المحبون.. عشق التضحية وأتم زواجه بها ثم ترجم هذا العشق الى عمل وطني جعله يُلقي بروحه في مهاوي الرّدى دون أي تردد..
لم يكن حبا عاديا كما يفعل المحبون العاديون أو حتى كما فعل مجانين الحب بل كان حبا عاقلا راشدا دفعه طواعية ليبذل أغلى ما يملك.. لقد كانت تكلفة هذا الحب اربعاً وثلاثين سنة.. ولم تكن هذه العقود من الزمن زمنا عاديا بمقاييس البشر وإنما كانت زمنا فوق أي زمن طولا وعمقا خاصة إذا علمنا بأن من يمسك عليه زمنه من أحد أطرافه هم القوم الذين لا يدركون أي معنى من معاني البشر.. هو اختار راضيا هذا الزواج الأول في حياته..
ولقد كان له من البنون الكثير الكثير.. لقد اختار أن يكون في هذا الموقع المتقدم الذي تتوالى عليه أجيال الشباب يضع في شخصياتهم بصمته الخاصة.. يعيد صياغة قوالبهم ويحرك اتجاهات نفوسهم نحو الهدف الصحيح ويحفر لبوصلته في أعماق قلوبهم لترشدهم الى حيث الطريق.. إلى حيث جوهرة الوطن الصحيح دون أية مواربة وبعيدا عن اي تزييف في زمن كثر فيه المزيفون.. لقد كان لنائل من هذا الزواج عدد يصعب احصاؤه من البنون.. كل من التقى بنائل تلقى منه هذه البوصلة التي لا تعرف سوى وحدة الهدف ودقة الاتجاه..
وقد يكون للمرء خارج اسوار السجن من الابناء الذين لا يعرفون هدفا ولا يدركون اتجاها تتفرق بهم السبل ولا يقرون لآبائهم بشيء فأين هؤلاء من أبناء نائل ؟؟ فكما قيل «Ø±Ø¨ أخ لك لم تلده أمك » نقول كم لنائل من ابن صنعه في مواقع المحنة والبطولة والفداء والتضحية ؟؟ إنهم أبناء ارتووا منه صفاء القلب وروعة المبادئ التي قامت عليها القضية ووحدة المشاعر التي تجسد روح الوطن الواحد ورفعة الهمة التي تناطح سحاب الحق وجمال الروح التي لا تعرف الا المعاني الباسقة التي تنتج أحسن الثمر..
لم يكن نائل غائبا أو كما أريد له أن يكون مغيبا بل كان حيا يرزق كل معاني الحياة.. ثقافة ومعرفة وارتقاء انسانيا وروحيا.. وكان حيا في ما يمنحه من حياة للآخرين وعلى العكس تماما مما أرادوه له.. أرادوا له أن ينطوي على نفسه، يندب حظه وتنكسر ارادته في داخله.. يسكن الاحباط أعماقه ليتحول على كر السنين موزعا للإحباط بامتياز.. لم يتحول الى كومة بشرية مهملة لا وزن لها بل كان شعلة لا تنطفئ وكان محركا للنشاط والحيوية رغم انف حياة القهر والبؤس والشقاء في أعتى السجون التي عرفتها البشرية.. نجح في صناعة البهجة والمرح من مكونات الحزن والالم.. نجح في اقامة منارة من العلم والمعرفة من مكونات سياسة التجهيل وقتل الروح..
نجح في صناعة الارادة التي تنتصر وهزيمة ارادة الهزيمة التي أرادوها للأسرى بعد هندسة زراعية اشرف عليها عتاة البشر عشرات السنين.. أفلح هو بإمكاناته المتواضعة ولم يفلحوا هم بكل امكاناتهم الهائلة. ويأبى نائل الا أن يستمر بمسيرة التميز ليقع اختياره على رفيقة درب في السجون.. يواجه الواقع المنغلق على أعراف وتقاليد تضع في موازينها حسابات الرجل من غير ان تضع حسابات المرأة على قدم المساواة خاصة اذا كانت المرأة تحظى بصفة اسيرة سابقة.. ويريد ان يرسل رسائله ويقلب هذه الموازين ويصر على أن تتساوى الحسابات وأن يعلو بقيم الانسان خاصة اذا كان هذا الانسان هو الاسيرة بغض النظر عن كل الاعتبارات العرجاء.. إنه نائل نسيج الحرية والكرامة.. صاحب رسالة يأبى الا أن تبقى مرفوعة بكل عزيمة واصرار رغم كل العواصف العاتية ورغم كل الذين يريدون لنائل أن يكون غير نائل.. إنه الرجل الذي خرج من السجن بعد الاربع وثلاثين سنة بأحسن حال وأفضل مقال..

 (المصدر: صحيفة القدس الفلسطينية، 23/11/2011)