" الشيخ خضر" يفك سلاسله..

بقلم: ريما كتانة نزال
صمم الشيخ "خضر عدنان" على القيام بإجراء أحادي الجانب، ودون أدنى اهتمام بالمحكمة وبلائحة الاتهام التي لا تقدم في حالته، ودون اكتراث بأن يجحف قراره بشروط ونتائج الاعتقال الإداري، فانهمك في تنفيذ فكرته بهدوء قاتل.
الشيخ الزاهد بملاذ الحياة الزائلة وإغراءاتها، ولم يكن بحاجة سوى إلى نقاش نفسه بعد صلاة الهزيع الأول من الليل، وإلى إجابة واضحة على طلب الاستخارة، وأن يتبين الخيط الشرعيّ الفاصل بين تضحيته بذاته من أجل شعبه ورسالته.. وبين ذهابه إلى الموت بوعي وإرادة فردية خالصة. كتم سره وحزم أمره برفض الخنوع والركوع سوى للخالق، وبدأ بالشروع في شدّ قيوده إلى بطنه، يفككها زردة تلو أخرى، وبين فاصلة وثانية يثبت مسمارا في نعشه.
تلقى الرجل الجواب الشرعي من قداسة الحياة، حيث اختار الله لنا النضال من أجلها ضد من يمنعها، وخيرنا بين الاستسلام لدوافع ومآرب الاحتلال غير المحتوم، وبين تبعات النضال المقدر في الوقت المعلوم والمدقق.
لم يكن بإمكان زهد "خضر" وشفافيته أن يطبّع علاقته بالذل والمهانة، ولم يكن لكبريائه أن يتكيّف مع عنف وعذاب الجسد والنفس، وفي جدال وحوار مع نفسه، تعثرت روحه في حمأة خيارين لا ثالث لهما، خيار القتل البطيء بعذاب القهر والشبح والضرب والجلد والذل، وخيار الموت جوعاً وعطشاً وافتقاداً، وما بين السفر بينهما اختار أن يقهر الجلاد بطهره، وأن يفتدي القضية بفناء الجسد.
اكتشف بأن مصيره واحد، مستنتجاً بأن نهايته على يد الاحتلال في كل الأحوال بفارق وحيد، أن يتحول وهنه إلى قوة متفجرة بوجه السجان، ويزدري بضعفه قوة القوانين الاحتلالية، وينفض الغبار عن عنصرية الاعتقال الإداري.
تجاوبت أطراف الجسد بتناغم مذهل مع الفكرة، وتفانى الوهن في الدفاع عن قوة القضية، وانفتح المعنى على أبعاده، وبلغ المجد ذروته بإجابته على أسئلة الوجود والجدوى والصبر. ويوما بعد يوم لم تنفك أمعاؤه الخاوية تفتح النوافذ على علو الجدران الأربعة، وتعزيز أبعاد جديدة على المرافعات القانونية التي من شدة تكرارها أصبحت طبيعية ومنطقية لكنها لا تحرك ساكناً.
اقتنع الشيخ بخطته ورسالته، بل وأقنعنا جميعا بمقاصده ونبله، بل واكتشفنا المساحة الخطيرة للتمايز الفردي.
زاد احترامنا له واستسلمنا لإرادته المنفردة مع ضغط حاجتنا للقدوة والمثال، في زمن يتيح الفرص لفيض من المناقصات والمزايدات.
فكرة ملهمة ومعمّرة، تعاظمت بتجاوب أطراف الجسد الضعيف معها داعمة لها بالصبر.  واصطف الجميع الأمعاء والأعصاب والعظام والقلب، خلف فكرة رجل واحد جاهزين للإدلاء بالشهادة. رواية الشيخ منسوجة من رحيق روح تمردت على كل ما أصبح طبيعيا ومكررا، رواية نفخت نفير الوجع وقرعت طبول التوهج في جميع الاتجاهات، من أجل راحة مشهد فكرة ارتجالية أخذت وقتها لتصل إلى جلبتها.
خضر لا يحب أن يتنبأ بالنتيجة، هو فقط نظر بعمق نحو ذاته، وألقى بصخرته في المياه الراكدة، داعياً إلى زوال الوهم، لكنه موقن بأن الفردوس في انتظاره.
"خضر" جاء إلى الحياة بأحلام وتوقعات كبيرة، واقتحم الدنيا مفعماً بالأمل والصلابة، ولم تكن الحياة تتسع لأحلامه، فرمى السلام على من يكمل الحكاية.

(المصدر: صحيفة الأيام الفلسطينية، 19/2/2012)