الصفقة ورسالتها الإعلامية!!

 

بقلم: هاني حبيب

وأخيراً ودّعت غزة أسيرها أو آسرها الجندي الصهيوني جلعاد شاليت، وفي أول صورة ظهرت له في هذا السياق ظهر يافعاً صغيراً متمتعاً بالصحة والعافية هادئاً ودوداً طفلاً لا تملك إلا أن تتعاطف معه، وهي غير تلك الصورة التي نشرت له قبل أكثر من خمس سنوات في أول مرة يظهر بها للجمهور بعد أن تم أسره، وهي صورته بملابسه العسكرية، إضافة إلى عدة صور نشرتها بداية الأمر وسائل الإعلام الصهيونية عسكرياً بجانب دبابته.
في السياق الإعلامي لتغطية صفقة تبادل الأسرى، كان انتظار كافة وسائل الإعلام لأول صورة للأسير جلعاد شاليت، وهي الصورة التي تعطي انطباعاً سريعاً، لكنه انطباع راسخ عنه، وكنّا نتوقع في هذا السياق أن يظهر شاليت بملابسه العسكرية، كتلك التي ظهرت في أول صورة تُنشر له بعد أسره، وهي الصورة ذات الدلالات والرسائل الإعلامية العديدة والهامة، فالأسير ليس مدنياً، والأسير تم اعتقاله من ثكنته العسكرية ولم يكن في إجازة عند ذويه، كان في حالة قتال على تخوم قطاع غزة، ولم يكن بوسع الكيان الصهيوني أن يدّعي غير ذلك، ولم يكن في حالة يسمح له بأن يحرض على المقاومة في هذا الإطار، كما فعل عندما تمت مهاجمة نواد ومنتجعات سياحية في داخل المدن في مرحلة التفجيرات التي استمرت لعدة أشهر، كما أنه لم يكن قادر على الادعاء بأن الهجوم استهدف مدنيين، كما يفعل دائماً عندما ترسل المقاومة صواريخها على المستعمرات المحاذية لقطاع غزة، لذلك كانت تلك الصورة التي نشرت لشاليت في أول ظهور له بعد أسره، من أهم الصور ذات الرسالة الإعلامية الواضحة والمحددة، والتي تحمل خطاباً مقاوماً فلسطينياً.
وبعد وقت قصير استدرك الكيان الصهيوني وسائل إعلامه ما للصورة من أهمية وخطورة، فوزع صوراً عديدة للأسير شاليت بملابسه المدنية، كطفل يلعب أو بين ذويه أو مع أترابه، تلقفتها وسائل الإعلام الفلسطينية بلا تردد، ونشرت هذه الصور، بديلاً عن الصورة الأولى، ووقعت ضحية الخداع الإعلامي الصهيوني، نتيجة للجهل لما للصورة من أهمية في خلق الانطباعات والمواقف، ولهذا دهشت كما دهش غيري خاصة في مجال العاملين بالإعلام، بظهور شاليت مرة أخرى وأولى بملابس مدنية أعادت له طفولته التي حرمه منها الجيش الصهيوني المحتل وهي الصورة الأولى التي يترتب عليها خلق الانطباعات والمواقف والتي تخلق تعاطفاً مع أسير "مدني" ما زال طفلاً وادعاً بدلاً من صورته الحقيقية كجندي مستعداً في كل لحظة لقتل أي فلسطيني.
إنها الصورة الأولى إذاً، أما الصورة التالية، التي التقطت لشاليت لدى وصوله إلى منزله في قرية متسبيه هيلا التي أقيمت على أراضي قرية فلسطينية، فقد كانت بملابسه العسكرية، ولهذه الصور دلالاتها ورسالتها الإعلامية التي يجب أن لا تخفى على أحد، فخمس سنوات وأكثر من الأسر، لن تردع شاليت عن إتمام مسيرته القتالية في الجيش الصهيوني - مع أنه قد يتم تسريحه عملياً من الجيش - أي أن سنوات الأسر والاحتجاز لم تغير من قناعاته ومواقفه، هذه هي الرسالة الضمنية التي توخى الجيش إرسالها للمتلقي من خلال صور شاليت العسكرية هذه، وهي بمستوى أقل من قوتها التأثرية عن الصورة الأولى بملابسه المدنية، لكنها مع ذلك ترسل رسائل يتوخى من خلفها الجيش الصهيوني التأكيد على المبدأ والموقف، وموجهة أساساً للمجتمع الصهيوني أكثر من أن تكون موجهة إلى الرأي العام في الخارج، الذي تلقف الصورة الأولى واتخذ موقفاً انطباعياً أشد رسوخاً.
يظهر شاليت بصورته العسكرية، وهو يؤدي التحية العسكرية لرئيس أركان الجيش الصهيوني بني غانتس، هذا الأخير اتخذ من هذا المشهد دليلاً على أن الدولة العبرية لا تتخلى عن جنودها، وكما قال في رسالة وجهها إلى جيشه، إن الثمن الكبير الذي دفعه الكيان الصهيوني مقابل إطلاق سراح الجندي الأسير شاليت لهو دلالة على أن الكيان الصهيوني مستعد كي يدفع ثمناً باهظاً مقابل جنوده، إذ إن الأمر يتعلق "بأخلاقيات" هذا الجيش. ولم ينس غانتس من أن يشير إلى تداعيات صورة شاليت باللباس العسكري، إذ يقول: إن الجيش الصهيوني يشعر بالفخر والاعتزاز بصمود شاليت وتصميمه على مدى سنوات احتجازه!
تنقل المشاهد المنقولة عن عملية إطلاق الأسرى الفلسطينيين مقابل إطلاق سراح الجندي شاليت، استثمرها الكيان الصهيوني في إطار رسالة إعلامية أخلاقية محتواها أن المواطن الصهيوني الفرد، هو مقابل أكثر من ألف فلسطيني وعربي، انظروا إلى المشهد وهو ليس بحاجة إلى أي تفسير آخر، هذه الرسالة موجهة للداخل والخارج خاصة في ظل حالة الارتباك التي سادت في الآونة الأخيرة المؤسستين، العسكرية والسياسية في الكيان الصهيوني على ضوء الثمن الهائل الذي دفعته بل إرادة منها مقابل إطلاق سراح شاليت هي رسالة تعويضية عن خسارتها المعلنة في هذه الصفقة، وهي كذلك موجهة إلى العالم العربي وشعوبه من أن الأعداد الهائلة من السكان في هذه المنطقة، بالكاد يتساوون من حيث الأهمية مع التعداد السكاني للكيان الصهيوني الصغير.
إن الصور التي ظهر بها شاليت بعد الإفراج عنه، طفلاً نضراً يافعاً بريئاً، يجب أن تستثمر إعلامياً في محتوى رسالة إعلامية مميزة، فهذه صورة أسير استمر في أسره لأكثر من خمس سنوات، خلالها عومل كأسير حرب في ظل الأخلاق الفروسية العربية، لم يبخل عليه آسروه بكل الرعاية الممكنة، ولولا ذلك، لظهرت صورته على غير ما ظهرت به، وهي صورة مخالفة حتماً لمشهد الأسرى الفلسطينيين، خاصة في ظل الإضراب المتواصل حتى يوم إطلاق سراح شاليت، كمشهد لمعاناة الأسرى من القيود والإجراءات العدائية التي تمارسها دولة الاحتلال ضد الأسرى الفلسطينيين.
ولكن، هناك صور أخرى لمشهد مغاير وسلبي، إذ بينما تمكنت عائلة شاليت من حشد المجتمع الصهيوني وراء قضية ابنها، وما مارسته من ضغوط هائلة على الحكومة الصهيونية، ما أسهم في خضوع حكومة نتنياهو لاشتراطات حركة حماس، نسبياً، نجد على الجانب الآخر، ورغم وجود أكثر من ستة آلاف معتقل، والباب الدوار لأسر المزيد من الفلسطينيين، أن تحركاً فلسطينياً، يوازي، ولو نسبياً، تحرك عائلة شاليت، نجد أن الصورة مغايرة ومخجلة، وحتى مع إضراب أسرانا في السجون الصهيونية، أو تحويل البعض منهم إلى المستشفيات، كان الحشد الفلسطيني لمؤازرة هذا التحرك محدوداً ومخجلاً، هذا التحرك الذي لا يشاهد إلا في مناسبات، في الغالب تعتمد على الأسرى أنفسهم.
وأعتقد أن الرسالة الإعلامية لا تزال مفتوحة للتداول والاستثمار إذا ما تمكنا من الإفادة منها، وتقويم الأداء الإعلامي الفلسطيني بما يتناسب مع أهمية قضية الأسرى وتجاوز الإرباكات، وربما الجهل بقدرة الإعلام على التأثير على الرأي العام، وليس علينا أن ننتظر المرحلة الثانية من تنفيذ الصفقة، وعلينا أن نبدأ الآن، لأننا تأخرنا كثيراً!

(المصدر: جريدة الأيام الفلسطينية، 19/10/2011)