الأسير عمار مرضي...مسيرة صبر وصمود وتحد وأمنيات

يغيب السجن وقضبانه وقيوده فرسان الوطن عن ساحاته ولكنهم يواصلون الطريق، فنبض العشق الأصيل حي يتجدد مع نبضات قلوبهم التي يسكنها الوطن وأحلام يرفضون التخلي عنها رغم ألم الفراق وعذابات رحلة النفي الطويلة، وفي كل يوم يخترعون بصمودهم وإرادتهم أشكال جديدة من الوفاء والانتماء تترجم روح العشق الذي يتفوق على كل أدوات القهر في معركة الحرية فيضيفون لسفر التاريخ الفلسطيني لوحات بطولة لكل المؤمنين بفجر الحرية والانتصار.
على هذا الدرب ورغم وحشة السجن وظلمته، يمضي الأسير عمار مصطفى أحمد مرضي (30 عاماً) مصمما على مواصلة المشوار الذي تعلم دروسه نضاله الأولى على يد والده فحمل راية فلسطين ليقدمها على كل شيء، ورغم الحكم القاسي يرفض التراجع أو التخلي عن رسالته، فهو ما زال صامدا ويتحدي بمزيد من العطاء والوفاء كونه الموجه العام للأسرى في سجن "هداريم".
على درب أبو عمار في منزل عائلته في مدينة البيرة، تنتصب صورة عمار لتبقى تذكر الجميع وخاصة شقيقته هند بقصص البطولة التي تفخر فيها كلما تردد اسمه وكله قناعة كما يردد في كل رسالة "أن كل تلك الأحلام التي رسمها ستتحقق ففي نهاية النفق المظلم تنتظر شمس الحرية لتعانق فلسطين وتهب النصر لأبنائها عندما يرفع طفل أو زهرة علم الوطن المفدى على مآذن وكنائس القدس عاصمة الدولة الفلسطينية القادمة".

حكاية اللجوء
عمار اللاجئ المناضل الثائر الذي أبصر النور في 18- 9- 1981 ليكون الثامن والأخير في أسرته المناضلة، تفتحت مسامعه على حكايات اللجوء ومعانيها والثورة ورسالتها التي تأثر فيها كثيرا، كما تقول شقيقته هند: "فجذور عائلتنا من بلدة الطيرة في المثلث الفلسطيني الذي شرد منه الأجداد في نكبة عام 1948 وبعد محطات التشرد والمعاناة استقر أبي في مدينة البيرة ولكنه لم ينسى يوما الأصل وحلم وأمنية العودة، فتربينا على هذه المبادئ والقيم التي كبرت ولم ولن نتخلى عنها يوما". وتضيف هند "على مقاعد الدراسة في مدارس البيرة تميز أخي عمار عن أقرانه بروح الانتماء لوطنه وقضيته فكان يشارك في المناسبات والتظاهرات ولكنه في مرحلة لاحقة اختار أن يعبر عن حبه وعشقه لوطني بالانتماء لتنظيم حركة فتح بشكل سري"، وتكمل "لم يلاحظ أحد دوره ونشاطه وحماسه الشديد في مقارعة الاحتلال حتى اندلعت انتفاضة الأقصى".

مسيرة نضال
عمار الشاب المحب للحياة، والمنتمي لعائلته التي أحبها أكثر من حياته فهي عائلة مناضلة قدمت كل التضحية في سبيل القضية، وتتذكر هند ما كانت ترويه والدتها عن نشاط والدها الكبير في دعم الثورة الفلسطينية، وتقول: "أبي منذ زمن بعيد شارك بفعالية في أهم مرحلة من النضال الفلسطيني عقب نكسة عام 1967 وانطلاق الثورة فقد كان أحد الذي ساندوا المناضلين ومدهم طوال حياته، وعلم أبناءه معاني العطاء والوفاء للوطن والتضحية في سبيله".
تعلم عمار الكثير من الدروس في تجربة والده النضالية، وعندما قرر مواصلة المشوار تميز بالسرية والصمت لذلك كان حريص على تأدية واجبه الوطني بعيدا عن العيون التي ترصد المخلصين أمثاله، فتابع دراسته ونجح في الثانوية العامة، وتضيف هند "التحق في جامعة بيرزيت لإيمانه بأهمية التعليم للشباب الفلسطيني كأحد أشكال الصمود والثبات وإفشال سياسات الاحتلال في التجهيل ومنع شعبنا من الدراسة وأمضى عام كامل مجدا ومجتهدا".

المطاردة والمعاناة
اندلعت انتفاضة الأقصى بينما كان عمار يواصل دراسته الجامعية ولكنه في امتحان الوفاء للوطن لبى النداء وانتصرت فلسطين ولم يتأخر عن حمل الراية فأدرج اسمه ضمن قائمة المطلوبين، وتقول هند "لم نعلم عن نشاط أخي ودوره في مقاومة الاحتلال حتى داهمت قوات الاحتلال منزلنا عام 2001 وطالبونا بتسليمه بعدما اتهموه بالعضوية في كتائب شهداء الأقصى ومقاومتهم".
لم يهتم عمار بالتهديدات بينما اشتدت حملات ملاحقته واستهداف عائلته، وتقول هند: "خلال رحلة المطاردة عشنا أصعب الأيام واللحظات من شدة خوفنا وقلقنا على حياة ومصير أخي الذين يطاردونه ويهددونه"، وتضيف "كنت أسهر طوال الليل ولا أنام بانتظار أن يتصل أو يأتي بطريقة ما للبيت لنراه ونطمأن عليه ونحن ندعوا الله أن يحميه ويجنبه الويلات التي كانوا يعدونها له".
المرحلة الأقسى في فترة ملاحقة عمار كانت رحيل والده، وتقول هند: "عندما بدأت قوات الاحتلال بملاحقة أخي، تأثر والدي الذي تجاوز العقد السادس من خوفه على حياة ابنه الذي حرم منه، وخلال نفس العام 2001 توفي ولكن الله حقق أمنيته الأخيرة وتمكن أخي عمار من تحدي كل الظروف الصعبة ووداعه، ولكنه حتى اليوم ما زال متأثر ويتألم".

الاعتقال والحكم
استمرت قوات الاحتلال برصد عمار الذي تابع مسيرته في قيادة كتائب الأقصى، واشتدت ملاحقته حتى تمكنت من حصاره واعتقاله، وتقول هند: "فجأة علمنا أن قوات الاحتلال اكتشفت مخبأ عمار ومجموعة من رفاقه واعتقلتهم في 9- 6- 2002 وعندما تم اعتقاله أيقنت أنه لن يموت ولكن تولدت حسرة جديدة حسرة السجن والسجان"، وتضيف "فخلف القضبان تعرض للتحقيق والتعذيب والعزل والضغوط ثم حوكم بالسجن المؤبد الذي لم ينال من عزيمته فما زال يعتبر الحكم تعسفي وظالم ويرفض الاعتراف بشرعية الاحتلال ومحاكمه وأحكامه ويتمسك بحقه في مقاومة ورفض الاحتلال ويؤمن بالحرية".

خلف القضبان
ورغم معنوياتها العالية واعتزازها بعمار، تقول هند: "اعتقاله كان صدمة كبيرة للعائلة ولم نتوقع أن يصبح أسيرا ونحرم منه بينما ما زلنا نتجرع مرارة حرماننا من أخي عمر (37 عاما) الذي طاردته قوات الاحتلال بتهمة تنفيذ عملية فدائية واستطاع أن يهرب من قبضة المحتل إلى مصر ثم تونس و ليبيا"، وتضيف "وبعد رحلة عذاب قاسية استقر في الأردن وحاليا يعمل في السفارة الفلسطينية في عمان ولا زال مطلوبا للاحتلال ونتمنى أن تنتهي هذه المحطة ويعود إلينا فقد فرق الاحتلال شمل العائلة عمر مطاردا وعمار أسيرا".
في سجنه، رسم عمار خطوات حياته في صفوف الحركة الأسيرة رافضا التخلي عن الراية والتنازل عن الحلم، فأدى واجبه النضالي على أكمل وجه وأصبح موجها لسجن هداريم، وتقول هند: "لم تؤثر تجربة التحقيق والحكم على معنويات عمار الذي تحدى العقوبات التي فرضت عليه وفي كل زيارة كان يشحننا بالعزيمة والمعنويات ويسجل صفحات بطولة خاصة عندما قرر مواصلة دراسته الجامعية".
ورغم الحصار الذي تمارسه إدارة السجون لمنع الأسرى من التعليم العالي، التحق عمار بالجامعة وتفوق في دراسة العلوم السياسية وبقي له كما تقول هند "فصل واحد ويتخرج لكنه تأجل حتى إشعار آخر بعدما أوقفت إدارة السجون التعليم في الجامعات ونأمل أن تنتهي هذه القضية لأن عمار يطمح لاستثمار فترة اعتقاله في الوصول لأعلى الشهادات العلمية".
منذ أربع سنوات، تحولت حياة والدته أم خالد لأحزان ودموع لحرمانها من زيارته، وتقول هند: "بعد اعتقال عمار كانت في البداية والدتي تزوره فجأة تعرضت والدتي لجلطة على الدماغ مما اضطرنا لنقلها للأردن للعلاج"، وتضيف "بسبب المرض لم تتمكن والدتي من العودة وألمها ليس بسبب المرض وإنما لحرمانها زيارة عمار والوسيلة الوحيدة لها اليوم هي الاتصال بنا ومتابعة أخباره فهي تنتظر زيارة أحدنا لتطمأن على أوضاعه تسأل عنه في كل لحظة وتصلي معنا لحريته وعودة اجتماع شمل عائلتنا التي فرقها الاحتلال".

حكاية عشق
في قسم العزل في سجن "هداريم" يتابع عمار كتابة صفحات نضال جديدة بانتظار عناق حريته وعائلته ووضع حد لأحزانها ومعاناتها، أما في البيرة فتستمد هند إرادة الصمود وهي تقف كل لحظة أمام صوره التي تزين جدران منزلها وحتى مكتبها في نادي الأسير في رام الله حيث تعمل موظفة تكرس حياتها لخدمه الأسرى وذويهم. فعبر السنوات الطويلة، ارتبطت هند بحكاية عشق من نوع آخر مع شقيقها عمار الذي يحمل معها ذكريات وأيام مضت حتى وصلت إلى تلك المحطة المؤلمة من حياتها التي تتمنى أن تنتهي قريبا بفرحة العمر المؤجلة، فهي تؤكد "أن كل لحظاتها ترتبط بعمار دون إرادة منها حتى أصبح كل شيء في حياتها يرتبط بمواعيد زيارته ورسائله وصوره، فتمضي أيامها تناضل لدعم صموده والمطالبة بحريته وكل الأسرى والصلاة والدعاء لتحقق الأمل".
لكن ما ينغص حياتها ويفاقم معاناتها اليوم، أن الاحتلال يحرمها منذ 5 شهور من زيارة عمار، وتقول: "فجأة أصبحت ممنوعة أمنيا من زيارته رغم أنه لا يوجد مبرر لذلك سوى الرغبة في العقاب والانتقام من الأسرى وذويهم، فمنذ اعتقاله واظبت على زيارته ويؤلمني أن يستمر هذا الظلم الذي يسبب لي معاناة كبيرة".
ووسط محاولاتها لإلغاء القرار وبانتظار اللقاء المؤجل حتى إشعار آخر، فان هند ومع دخول شقيقها عامه العاشر في الأسر تعيش وسط الذكريات، وتقول: "أحيانا لا أصدق أن عمار خلف القضبان وعندما أواجه الحقيقة المرة أتغلب عليها بصور الذكرى حتى المريرة منها فمن يصدق أن أخي لم يسكن معنا في بيتنا الجديد ولم يذهب إليه أبدا لأنه كان مطارد وكان خائفا أن يتم هدم البيت أو قصفه، فقرر أن لا يذهب له أبدا هو لم يدخله ولكن كل يوم أراه عائدا".
وتضيف "رغم أنه يكبر فعمار ما زال طفلا في عيوننا هكذا نراه وهو حنون ونحن ننتظر كل دقيقه حتى يتم الإفراج عنه ولم أفقد الأمل أبدا سأبقى أحلم بالإفراج عنه وما دام الله معنا فالموعد قادم".
ووسط الصبر والصمود والأمل، فإن أفضل وصف لحكاية هند وعمار هو ما كتبته مديرة العلاقات العامة في نادي الأسير أماني سراحنة في قصيدة خاصة عنهما حيث كتبت "هند وعمار محطة عشق ومودة تؤكد للجميع أن الاحتلال وإن فرق بين الصور فلن يفرق بين القلوب وبين الذاكرة المرتبطة بمكان وروح".

 (المصدر: صحيفة القدس الفلسطينية، 8/7/2012)