تريَّثي يا أسماء.. فـالوصية في حُلم.. نسمة!

- أسماء، - نعم، - لا، أبدًا لا شيء، - كم مرة قلتُ لكِ _يا نسمة - إنني أمقتُ أسلوب الـ"لا شيء" هذا، هيا قولي ما لديكِ يا ثقيلة الظل، - حسنًا، ولكن تذكّري أنه مجرّدُ حُلم.
عند نقطة "التّتمة" تلك، انفجر صاروخٌ دوّى صوته في أرجاء "الزيتون"، فارتعدت أوصال "أسماء"، وبسرعة وضعت سماعة الهاتف المحمول لتتلقّى الخبر: "إنه صاروخ (إف 16) ، لقد سقط في أرضٍ فارغة قرب مصنع "ستار"، لا تخافي يا نسمة دعينا نصلي العصر ثم ننزل إلى الطابق الأرضي فالموت مع الجماعة رحمة.
ضحكَت الاثنتان و"بقايا الحديث" لم تلتئم، إلا أنها استمرّت تؤرّق "روتين" الوقت المتبقّي في عقل "أسماء" حتى وقت ما قبل العشاء تقريبًا، هناك حيث اجتمعت الاثنتان، في بيت "العم"، فاندملت "تفاصيل" الحكاية، وكانت "النهاية" "طعنةً" أصابت "الراوي" (أسماء أبو زور -21 عامًا) في مقتَلْ..
نسمة.. لم تكملي لي الحلم - أي حلم هذا يا أسماء؟ - نسمة، لا تحاولي، أعرف أنك تذكرينه جيدًا، كنتِ تريدين أن تقولي شيئًا لحظة اجتمعنا في شقتي، - أرجوكِ - يا أسماء - انسي ما قلتُه؛ الوضع لا يحتمل دعينا نجلس بسلام الآن، - إذا لم تخبريني فسأقاطعك بعد انتهاء الحرب وابحثي عن أحدٍ غيري يرافقك إلى السوق...
بدأت الكلمات على لسان نسمة تترجّل رويدًا: "لقد حلمتُ أنكِ استشهدتِ يا أسماء، وأنني أخذتُ طفليكِ لأربيهما، وقد تزوّج زوجك، لكنني لم أرضَ أن يأخذ الطفلين أبدًا، وربيتهما عندي في بيتي".
ضحكَت أسماء بعد أن أحسّت بألمٍ نخَزَ روحها، وقالت تحاول أن تهدِّئ من روعِ أختها الصغرى: "إنها أضغاث أحلام، أنتِ "جبانة" جدًّا، لا تخافي، الله معنا ولن ينسانا".
بالمناسبة: نسمة وأسماء أبو زور هما أختان تزوّجتا من أخوين من عائلة واحدة (سلَفات)، وهما "البطلتان" بالتساوي في (سيناريو) "الموت"، ذاك الذي كُتِبَت أحداثُهُ بـ"شرٍّ بالغ الإتقان"، ووقّع أمر البدء بتصويره "صاروخُ حقد" أصاب منزلهما المكون من ثلاث طبقات، فغاب في ثنايا دخانه "الأسود" أربعة شهداء بينهم صاحبةُ الحلم!، نعم، انقلبَت الآية، وغادرت "نسمة" الحياة تاركةً في الطريق نحو "مجهولٍ" لا يعرفُه إلا الباري طفلين: "روان" ابنة العام والنصف، و"إيهاب" صاحب الأعوام الثلاثة، وأختها "أسماء".
نعم، لقد ترَكَت "نصف روحها" في الأرض تهدهد: "يا رب تنام، يا رب تنام"، ولكن ليس لطفليها فقط، بل لطفلي "نسمة" كذلك، تلك التي ضمّنت في ثنايا تفاصيل الحلم الصغيرة "وصيةً" أقسمَت أسماء أنها ستكون لها أهلًا.
في بيت أهلهما العتيق، وتحت شجرة "التوت" المتهالكة أغصانها، وُلِدَ ذلك "القدَر": أسماء التي كانت تكبر نسمة بعامٍ واحد كانت "الحضن" الدافئ لسرِّ أختها، لقد بدت إحداهما للأخرى مرآةً تبكي "الصورة" فيها بذات المرارة في دموع "الأصل"، الاثنتان كانتا "واحدًا" في كل شيء: دوام المدرسة ومشط الشعر وتلك التصرفات الصبيانية، حتى في لون الثياب وشكلها كانت "نسمة" "أسماء"، و"أسماء" "نسمة"!، ولعلّ تلك التفاصيل الصغيرة المتطابقة بينهما وفرق السنّ الذي لم يتجاوز العام جعلا أغلب الناس يظنّهما توأمين، وكانتا معًا تصدّقان تلك "الكذبة"، "ولمَ لا؟! فحتى الشبه بينهما كبير كبير.
وفي يومٍ من الأيام، جاء "فارس" الحكايات ذاك، الذي يظهر في كل حكايةٍ فيظفر ببدر البدور، وكانت خطبة "نسمة" الصغرى، أما "أسماء" فلم ينغّص فرحتها بأختها إلا فكرة "الفراق"، تلك المسافة "القريبة" "البعيدة" بين البيت والبيت، وذلك "النضج" الذي على نسمة أن تتصنّعه منذ اليوم؛ "لأنها ببساطة ستضحي زوجةً، وأمًّا فيما بعد، نعم، فلا لعب بعد اليوم ولا مقالب ولا.. ولا.. ولا... وقائمة الممنوعات تطول!

"أسماء..، بعرف إنك زعلانة، أنا ما بدي أكمِّل بخطبتي هادي، أنا بدي أضل معك، بدي نرجع متل ما كنا... إيش مالك؟! إنت متغيرة كتير معي، ما عدتي تمزحي وتضحكي معي متل أول".
"يا نسمة كل وقت وإلو أذان، وإنت هلأ مخطوبة، وما عاد ينفع تتصرفي متل الأطفال، وعلشان هيك أنا قررت أصير بنت راكزة يمكن أقدر أعديكي".
فكرة أن تحجم "نسمة" عن إتمام زواجها بدأت تسيطر عليها في كلِّ يومٍ يمر أكثر فأكثر، سيما أن "أسماء" بدأت تطبّق ما وعدَت به حقًّا، لقد كانت نظرات الألم في عيون الأخيرة "تفضحها" بضع دمعاتٍ تنهمر "تلقائيًّا" كلما أمعنت عيونها بالنظر في وجه أختها، كيف لا وهي التي عاشت معها "الطفولة" كاملةً بين ألوان الشمع ومربعات لعبة "الحجلة"؟!
أسبوعٌ من التفكير والألم واليأس، مرَّ على الاثنتين "دهرًا" من "وجع"، ثم إذا بالقدَر ينادي: "ستبقيان معًا"؛ لقد تقدّم أخو ذلك "الفارس" (أتذكرونه؟)، لقد تقدّم يخطب قلبَ أسماء، تلك التي تنهّدت بقوّة، وزفرت زفرة "خَلَاص": "الحمد لك يا ربّ العزة؛ لن نفترق".
تقول أسماء: "كانت فترة جلب "جهاز العروس" هي أحلى حقبة عشناها معًا: كنا نخرج في الصباح ونعود قبل المغرب، ونشتري من الملابس كلها ما يتوافر منه قطعتان، فإن لم نجد صرفْنا النظر عنه!، ومصادفة - والله يشهد - أنا كنا نرتدي بعد زواجنا ثيابًا متماثلة يوميًّا"!
الاثنتان أنجبت كلٌّ منهما ولدًا وبنتًا، وكانت الواحدة منهما تحتفظ بصور طفلَي الأخرى في هاتفها المحمول، والسبب تردفه بقولها: "لغرض الوحام كنا نتمنى أن ننجب أطفالًا متشابهين"، والغريب في الأمر -عزيزي القارئ - أن أطفال الاثنتين كانوا ينادون الأم والخالة كلتيهما: "ماما"!
تستطيع أسماء اليوم أن تغمض عينيها وتتحسّس ذكرى "الفجر الأحمر": الاثنين 19/11/2012م وكأنها تعيش دقائقه المُرّة جميعًا، وأن تتلمّس وجه "نسمة" الذي اختلطت دماؤه بدمعٍ "مُر"!، تستطيع أن تتكلّم ولكن بصوتٍ تخنقُ ثباته صورةً لـ"ضحكة" ساذجة كانت نسمة تطلقها بعد كلّ مقلب، إنها تحكي فلننصِت معًا: "نزلنا إلى بيت عمنا قرابة العشاء، وكنا نرتدي ثياب الصلاة، وتحتها ثيابًا صيفيةً بأنصاف أكمام، جلسنا فترةً في الأسفل نجوب الدار بحثًا عن زاويةٍ آمنة لا نوافذ فيها لقد كانت وقتها أقصى توقعاتنا أن يتناثر زجاج النوافذ فيؤذي أحدنا، وكانت نسمة تجلس صامتةً على غير العادة! وكنتُ كلما سألتُها أجابتني :"قلبي مقبوض يا أسماء".
ولأنني الكبرى، تشبّثت نسمة بكمّي ولاحقَتْ ظلِّي وكأنني إن سقطَ الصاروخ علينا سأردُّه بقبضة يدي، ضحكتُ حينها ورغم ثقل حركتي بسببها، سيما أنها كانت تحمل ابنتها أيضًا؛ كنتُ أشعر بسلامٍ نفسيٍّ لم أشعر بمثله طوال حياتي، كنتُ أقول لها : "صدقيني لن يحدث شيء، ألا تثقين بحدسي؟!، الله سيسلّمنا بإذنه".
وللمرة الأولى أرى "الورد" غاب عن وجنتي "نسمة"، بدَت شاحبةً كالمربوط في جحر ثعابين، يسمع "الفحيح" ويرى "الموت" يقترب لا محالة، فجأة لحِظْتُها استجمعت في قلبها "بقايا شجاعة"، وقالت: "سأصعد إلى شقتي لأرتدي ملابس مستورة، لا أريد لأحدٍ أن يرى ساعديّ إذا ما استشهدت"، ثم ضحكَت وأخذت معها ابنتها ومضت!".
إلى هنا لم تتمكّن أسماء من أن تكمل "الحكاية"؛ لقد سمِعَت صراخ "روان" تحترق فيه الحروف تنادي :"ماما.. نـــن.. ماما.. نـــن"، إنها معدتُها بل قلبُها يستغيثُ حضنًا دافئًا كان فيه "الأمن" و"الغذاء" و"الحب"، قرَّرت أن تأخذ استراحة محارِب، وبسرعة وضعت أسماء ابنتها على بطانيةٍ قريبة، واحتضنت روان، وروَت جوعها، أرضَعتها، وهزّت مهدَ إيهاب الذي كان ينادي هو كذلك يصرخُ نحو "البعيد" حيث أمه، هناك في الجنة، كما أخبرته الجدّة.
تفاصيل الرواية نقلَتْها وسائل الإعلام: كانت عائلة المواطن خالد عزّام (المحاذي منزلها لمنزل عائلة أبو زور) تلقّت تحذيرًا "عمليًّا" قبيل الفجر بدقائق بضرورة إخلاء البيت فورًا؛ لأنه سيُقصَف، وبسرعةٍ خاطفة انطلق المذكور يبلغ جيرانه حفاظًا على سلامتهم، سيما أن بيوت منطقة الزيتون هناك تحتضن بعض جدرانها بعضًا!.

حدَثَت "بلبلة" الإخلاء تلك، والكل هروّل يحاول الحفاظ على ما تمكَّنَ من "ولدٍ" و"نفسٍ" ومال، ولكن طائرات (إف 16) كانت بغدرِها أسرع؛ لقد أطلقت صاروخها الأول، وسقط يعانق سرير "نسمة" في الأعلى، ولكنه لم يكن أبدًا - ولن يكون - أقوى من قدر الله: "لقد كتب الله لها النجاة إلا من شظايا اخترقت رأسها وظهرها ويديها، وبسرعة حمَلَتْ طفليها وانطلَقت نحو الأسفل متجاهلةً كل ألَم، حتى سلّمت "روان" لأختها، وغابت في ملكوت الله تنتظر "إسعافًا" طال مجيئه!
تتابع أسماء: "عندما رأيتها تسابق السلالم، والدماء تنهمر من رأسها صرَخْت: "نسمة ماذا ألمَّ بكِ؟!"، ثم بكَيت وبكَيتُ، أدعو الله لها بطول العمر والشفاء، ثم بدأتُ أمسحُ عن وجهها آثار "خوف"، ومرّرت كفّي فوق رأسها أقرأ آية الكرسي وأستغيث "الحيّ القيوم الذي لا تأخذه سنةً ولا نوم"..".
هدأت نسمة، واحتضنت ابنتها تحت أحد النوافذ، وكان ابنها مع أبيه، أما أسماء فجلَست قبالتها، تنظر إليها وتقول لها: "الإسعاف سيصل يا حبيبتي قريبًا، لا تخافي، أكثري من الدعاء وحسب".
ومرّت لحظاتٌ طِوال، طِوالٌ جدًّا لم تنطق خلالها ألسنتهم إلا بالدعاء، نسمة احتضنَتْ ابنتها وبكَتْ ثم نظرت إلى أسماء، وكادت أن تقول شيئًا لولا... إنه "القدر"، ذلك الذي كان الله خبأه بين "قدر" أن يكونا أختين، و"قدر" أن يكونا "سلفتين"، "قدرٌ" كان لابد له من نفاذ، إنه "الفراق": الصاروخ الثاني الذي اندفع يهشّم طبقات البيت كلها، حتى وصل إلى نسمة، وانفجر!، طارَت نسمة عن الأرض أمتارًا عديدة، وسقطَت في مربعٍ تلقاها فيه أحد الجيران وهو عاهد القطاطي (35 عامًا)، لتلفظ بين يديه أنفاسها الأخيرة، فيتبعها هو كذلك إلى السماء بعد صاروخٍ ثالثٍ أصابهما معًا!
"أسماء" بقيت فترةً تحت الرّدم، يسندها من الخلف حائط، وفوق صدرها تجثهم صخرة، كانت تنادي بحرقة: "نسمة نسمة، هل من أحدٍ حي؟!"، ووفق ترتيب القاضي العادل كُتِبَت الحياة لطفليها ولروان ابنة نسمة، ولإيهاب كذلك، وكانت حصيلة الشهداء في ذلك القصف أربعة هم:
نسمة أبو زور (23 عامًا)، والطفل محمد أبو زور (4 أعوام)، والسيدة سحر أبو زور (25 عامًا)، والجار عاهد القطاطي (35 عامً).
ولمن أراد أن يعرِفَ أسماء فليبحث عبر موقع (يوتيوب)، عن تلك المرأة الفلسطينية التي كانت تغني لطفليها المصابين على سرير المستشفى: "يا رب تنام يا رب تنام"، وتقول: "لن يأخذ أولاد نسمة أحد غيري، أنا من سيربّيهما، أنا لا أخرى".

تعقِّب: "بعد عشرين عامًا إذا كتب الله لي الحياة، فسأذهب إلى حيث قبر نسمة، سأسقي ترابه، وأضع فوقه وردًا يشبهها، وسأقول لروحها: "ها أنا ذا يا نسمة حقّقتُ الوصيّة، وعشتُ تفاصيل "الحلم"، لقد زرعتُ شجرةَ الياسمين البيضاء في صحن الدار، ومازلتُ أعشقُ ألوان الشمع ولعبة "الحجلة"، ومازلت أضحك كلما سألني أحدٌ عن "توأمي"، تلك الكذبة، أتذكرين؟"، ورغم أن ما حدث جعلني أطمئن أكثر إلى "قدَر" الله مازلتُ حتّى اللحظة أخاف الأحلام".

(المصدر: صحيفة فلسطين، 26/11/2012)