الشهيد راني حماد يُولدُ من جديد!

كانت الشمسُ تلقي بأشعتها الذهبية تداعب رمالَ مخيمِ جباليا في شمال قطاع غزة، على الرغمِ من غبارِ القصف الصهيوني الذي حجبَ بعضاً من أشعتها، لكنها أبت إلا أن تصل إلى بيوت أهالي قطاع غزة، كما وصلت "حجارةُ السجيل" إلى عمقِ بلادنا المحتلة هناك في المجدل ويبنا والقدس وتل الربيع.
كعادته فتحَ مصحفه وبدأ يتلو بآيات القرآن الكريم بتدبرٍ وخشوع وزوجته تناظرُه وعيناها تميلان إلى ذرف الدموع، وقلبُها يخفقُ بحبِ زوجها الذي كان معها في كل موقفٍ وفي كل زمانٍ ومكان.
اقتربت منه، ثم اقتربت أكثر فأكثر، قابلها بابتسامة الشهداء مستبشراً خيراً فالقادم حتماً بإذن الله أجمل وأجمل، وقال لها: مالي أراك ِ حزينة ً؟! ، فقالت: أخشى أن تفارقني يا راني، وألا تعودُ إلي، أخشى ألا ترى ولدَك القادم، وأخاف أن يتجرع مرارةَ اليتمِ منذ أن تبصرَ عيناه نورَ الدنيا وجمالها.
تبسم مرة ًأخرى ثم قال لها: يا زوجتي الحبيبة، اصبري واحتسبي فإني والله أتمنى الشهادة كل يومٍ أرقبها في كل موطنِ رباطٍ وفي كل ساحٍ أخطو إليها، أشتاقُ للقاءِ ربي وللقاء كل أحبابي الشهداءِ فإني قد أطلت البقاء في دنيا الفناء.
اشتدت دموعُها، اقترب منها ومسح دموعها ثم قال لها: لقد حان الرحيلُ يا أم محمد، لن أستطيعَ أن أرى ابننا القادم، فإني على مقربةٍ من الشهادةِ ومن الرحيل عن هذه الدنيا، فاصبري واحتسبي يا زوجتي الحبيبة.
أيقنت أم محمد أن الأمرَ لا مفر منه، وأن ساعة الفراق قد حانت، وأن راني سيذهب بلا عودةٍ، ودعته وداع الأبطالِ وداع المجاهدين، ثم قالت: امض يا راني، وسر إلى حيثُ شئت، فإني محتسبة صابرةٌ، فأنت من تمنيت الشهادة في سبيل الله، وأنا سأكون فرحة بارتقائك إلى جنان الله يا راني.
خرجَ من بيته مودعاً زوجته بقبلةٍ على جبينها، وباحتضانٍ حار ودع ابنه محمد ابن العامين، ومضى إلى ساحاتِ الوغى عازماً على الشهادة في سبيل الله، واللحاق بأحبابه الذين سبقوه إلى جنان الله نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً .
في صباح تاريخ 15/11/2012، استيقظ راني ومجموعته من النوم مبكراً لصلاة الفجرِ، فصلوا الفجر ودعوا الله أن يوفقهم في مهمتهم الجهادية، ويسدد رميهم نحو أعداء الله.
وفي هذه الأثناء تلقت أم محمد اتصالاً من زوجها راني، ففرحتْ بأن راني يكلمها وأنه سالماً، فقال لها: زوجتي الحبيبة لن تريني بعد اليوم وإني ذاهبٌ إلى مهمتي ولن أعودَ إلا محمولاً على الأكتاف بإذن الله تعالى.
انطلقَ راني ومجموعته إلى مناطقَ متقدمة من شمال قطاع غزة، وبدءوا يضربون نحو أعداء الله اليهود، ولقد نجحت عمليتهم بضرب المغتصبات الصهيونية، وبعدها بدقائق يعترف العدو الصهيوني الجبان بوقوعِ إصابات نتيجة القصف لمغتصباته الزائلة بإذن الله، ليتهلل وجهُ راني فرحاً بنصر الله المؤزر.
وقبيل صلاة ظهر ذلك اليوم عادت المجموعة بعد أن أنهت المهمة بنجاح، وفي طريق عودتهم استهدفتهم طائرة استطلاع صهيونية بعدة صواريخ، ليصيب أحد الصواريخ راني إصابة مباشرةً ليرتقي شهيداً وقد نال ما تمنى من شهادةٍ وفوز بالجنان بإذن الله.
ووصل الخبر إلى أم محمد بسرعة البرق، فسرعان ما ذرفت عليه دموعَ الفراق والألم وعذابات الغياب، لكنها مسحت دموعها بسرعةٍ وتذكرت كلماتِ زوجها، "ارفعي رأسك عالياً عند سماعك نبأ استشهادي واصبري واحتسبي ولقاؤنا في الجنةِ بإذن الله تعالى".
وجاءها المخاضُ بعد أن ودعت زوجها بساعاتٍ قلائل، لتضع طفلاً في مستشفى العودة في شمال القطاع، وهي تتذكر كلمات زوجها بأنه لن يرى طفلهما القادم، فأطلقت عليه اسم "راني" تيمنا بزوجها الشهيد.

فمع غروبِ شمس ذلك اليوم جاء راني بعد أن رحل أبوه راني في نفس اليوم، لتبدأ حكايةٌ جديدة، مع فارس جديد، فالأب رحل لكن البندقية لم ترحلْ لتبقى بيد طفليه اللذين سيمضيان على درب والدهما الشهيد، ويقضان مضاجع الاحتلال كما أقضها والدهما من قبل، وللحكاية بقية.

(المصدر: فلسطين الآن: 4/12/2012)