حلمي.. يربط على الجرح ضمادة لإحياء ذكرى محمد.. بمحمد!

عزيزي القارئ ، أربع سنوات مرت على غزة منذ صبيحة يوم السبت الموافق للسابع والعشرين من شهر ديسمبر لعام 2008 نذير العدوان على غزة في حرب الفرقان.. أربع سنوات انقضت على حرب أكلت الأخضر قبل اليابس، وأقضت مضاجع الأطفال قبل الكبار.. أربع سنوات وما زال الجرح طريًا ينزف دمًا، وأطلال الألم تستعمر الوجدان.
أربع سنوات انتهت على غير العادة، ففي كل ذكرى يعلو صوت الأنين يمزق القلب، أما هذه الذكرى لها بريقٌ آخر يختلف، إنه بريقٌ متوجٌ بـ "بالإنتصار"، فذكرى ثلاثة وعشرين يومًا قبل أربع سنوات، تثمن دور شقيقتها ذات الأيام الثمانية أن شفت غليلها وغليل مبتوري الأحبة، فأول الغيث "فجر".

نذير المجزرة
كلما ابتعدت ذكرى الرحيل زاد خفق الأنين، فأي وجع تسكن تفاصيله دقائق اليوم، وأي سنوات تلك التي تزيد الأنين احتراقًا، أما آن للنسيان أن يجتاح ذاكرتنا.. كما اغتيلت الفرحة؟ فما بالك يا نسيان تحث الخطى هاربًا، أوجدت فينا صمودًا ووفاءً يذيب سطوتك، وقد أقسمت الذكرى فينا أن تحيا.. لتبقى تفاصيل الألم تحكي قصة "محمد" الشهيد لأخيه الوافد الجديد "محمد"!.
محطتنا وضعت رحال الذكرى في كنف آل السموني، ليستذكر معنا "حلمي السموني" يوم أن غرّد بكره "محمد" ذو الأشهر الستة عصفورّا في الجنة، فـ "حلمي" فقد والديه وزوجته وابنه، ناهيك عن زوجة الأخ وأبناء العم وأفراد آخرين من العائلة.
طوابقٌ ثلاث تلك التي كانت عائلته تقطنها، وحظه كان الطابق الثالث والأخير ليؤسس عش الزوجية، وقبل موعد الوجع بأشهر ست فقط يستقبل زقزقة العصفور "محمد"، فأي سعادة تلك التي يعيشها "حلمي"؟ لكن أتون الحرب المشتعل أجبره أن يترك طابقه الثالث ويهرع مع إخوته ليتمركز الجميع في الطابق الأول برفقة من حضر من أقارب، والكل ينشد السلامة وحسب!.
نذير المجزرة كان قبل موعدها، إذ احتضن منزل "حلمي" صاروخًا من طائرة صهيونية ليحترق العش بما فيه، ويكاد صاحبه يفقد عقله، فهو ما زال يتجرع من كأس الفرح لكنه بالوجع اكتحل! فليس من السهل على من بدأ سعادته في الحياة بزوجة طيبة وطفل كالبدر أن يقتنع بفقدان العش!.

"خبز الصاج".. بنار الصاروخ
كالمجنون هرع "حلمي" لكن لا ماء يطفئ الاحتراق المشتعل في منزله، فكلما أطفأ جزءًا اشتعل غيره، والمؤلم أن جيش الاحتلال يراقبه عن كثب وعلى شفاههم ابتسامة صفراء فرحًا بمصابه، إلى أن جاء إخوته يجذبونه للطابق الأول، فللبيت عمار لكن الروح لا يستهان بفقدها!.
لكن تفاصيل موت آخر أرادها جيش الاحتلال، ليطلب من الأربعين شخصًا في حضرة والد "حلمي" بمغادرة المنزل بعد تبادل الكلمات بالعبرية معهم، وقد كان انتقال ما يقارب مائة شخص من أفراد العائلة والجيران الآخرين إلى "حواصل" "وائل السموني" ابن خالة "حلمي"، ولك بعين الخيال أن ترسم مشهد تجمعهم وليلة الرعب التي قضوها تحت سقف واحد!.
ومع شقشقة الفجر – والرواية ما زالت لـ "حلمي" – في فناء "الحواصل" جلس ابن عمه "محمد" وأخوه وبعض أفراد العائلة يعدون خبز الصاج لإطعام مائة شخص لم يغمض لهم جفن، فما كان من طائرة أباتشي تحلق في المنطقة إلا أن ترسل صاروخًا ظنًا منها أن نار الحطب ليست كافية، لتحصد معها روح ابن العم وتسبب جراحًا لمن كانوا حوله، وخبز الصاج قد أعطى عمره!.
بقيت جثة الشهيد تحرس بدمائها بقايا الحطب المحترق، و"حلمي" الواقف على طرف "الحواصل" هرع برفقة من معه لإسعاف المصابين، انشغل "حلمي" بجراح أخيه، وفي غمرة انشغاله لمح بطرف عينه أمه وأباه وزوجته وطفله، لم يجل بخاطره أنهم يقفون كدرع بشري، ولم يمر بفكره أن الأباتشي لم تقف عند صاروخها الأول لزيادة احتراق الحطب.
لتحيل "الحواصل" دخانًا أسود يحمل رائحة الدم المعبقة بالموت، لأن طائرة الأباتشي قررت أن تزيد عدد الصواريخ، ليغتصب صاروخان منها حرمة تلك "الحواصل"، بصعوبة استعاد "حلمي" قدرته على الرؤية وأخذ يبحث، وجد أن أمه شهيدة وأباه شهيد وحتى زوجته، ضربٌ من الجنون كاد يحدق به، لكنه تماسك وعن بكره "محمد" بحث!.

"محمد السموني".. باقٍ
أنفاسٌ أخيرة تتردد في جسد "محمد" فإصابته في رأسه، وهو طفلٌ لا يكاد يحتمل لمسة على رأسه الطري، فكيف بما ينتج عن صاروخين دفعة واحدة؟ حمله والده وجرى به خارج "الحواصل" حيث لا إسعاف ولا سيارات ولا بشر في الطريق، سوى جيش قتل الرحمة في نفسه قبل أن يوجه ناره لطفل "حلمي"!.
أخيرًا لاح في الأفق بعد مسير بعض السيارات، "حلمي" يحمل ابنه وآخرون يحملون جرحى، لكنه رفض أن يتخذ لنفسه مكانًا فـ "محمد" بين يديه فارق الروح، لذا من الأولى أن يستقل السيارات من له في الحياة حظ أو نصيب، وعلى مهل سينقل ابنه إلى المشفى، علّه يختلي به فيبثه شوقه إليه، ويحمله رسالة شوق لأفراد العائلة الشهداء والذين فاق عددهم الستين ولربما السبعين!.
بعد المجزرة انتهت الحرب أخيرًا، وتنفست غزة صباحًا موجعًا باردًا ببرودة الموت، و"حلمي" ينفض روحه عله يستفيق فيرى نفسه في كنف عائلته، مع الأسف.. هو بلا أب وبلا أم وبلا زوجة وبلا طفل وبلا بيت، ما كان أمامه غير أن يحتسبهم جميعًا شهداء عند الله حتى لا يفقد مع فقدانهم إيمانه، لكنه أخذ الكثير من الوقت ليحاول استعادة بعض من عافيته.
في كل عام يجتر "حلمي" ذكرى تفاصيل الوجع، كما لو أن المشهد حيٌّ يرزق بملامحه الواضحة، ومع أن الذكرى مضت منذ أربع سنوات غير أن صوته ما زال يختنق بغصّة الفراق، ليغيب منذرًا بولادة الدموع، عندما عاد صوته قال: "قد تمضي بنا الحياة أيامًا نبتسم فيها، فيعتقد الآخرون أن نار الرحيل أحيلت رمادًا، فإذ بالرماد يخفي لوعة الاشتياق!".
فـ "حلمي" قبل ثلاثة أشهر من الآن رزق بابنه "محمد"ØŒ لأنه أخيرًا قرر أن يربط على جرح الفراق ضمادة، ويؤسس حياته مجددًا، لكنه آثر ألا يترك من الذكرى لمحة، فكانت البداية بأن يطلق اسم ابنه الشهيد "محمد" - أصغر من استشهد في مجزرة آل السموني – على ابنه الوافد الجديد، منتظرًا إياه ليكبر ويخبره "وجع" آل السموني، فتلك "قصة" سيحفظها التاريخ عن ظهر قلب.

(المصدر: صحيفة فلسطين، 2/1/2013)