الشهيد ترابي ووالداه.. مشاهد الوداع الأخير

"حسن صحته كتير منيحة ونصحان (زاد وزنه)؛ جاءت خالته "آمنة علي"، بـ "الخبر اليقين"، لم تترد في إخبار أسرته بما رأته بعينيها، يوم أن زارته في سجن "مجدو"؛ هذا الشاب النحيل الذي سلب الاحتلال حريته، في يوم "أسود" بداية هذه السنة، يزداد وزنه! من الشهر الماضي؛ عادت آمنة بعد أن أتمت الزيارة، دون ابنها الأسير في ذات السجن، وبلا حول منها ولا قوة، راودها الاعتقاد بأن حسن ترابي، أكبر أبناء شقيقتها، يزداد وزنه، وأن صحته تتحسن، لكن اعتقادها ما كان صائبا بالضرورة، وما رأته بعينيها ما كان ليعبر عن الواقع.
الواقع نفسه لم ينتظر كثيرا؛ العائلة تلقت على مضض من الاحتلال، نبأ نقله غلى مستشفى العفولة في 16 من الشهر الماضي، لتلقي العلاج، وأيَ علاج هذا، الأطباء هناك كانوا يسعون إلى دفع مرض السرطان المتفشي في أنحاء جسده؛ لم يكن وزنه إذن في ازدياد، بل كان جسده في "انتفاخ"!.
كعادته الاحتلال؛ كان قد اعتقله لمّا شن حملة اعتقالات شملته، مع علمه بأن هذا الشاب كان يعاني من خبث المرض مذ كان صغيرًا، لكنه لم يلتفت إلى شيء من هذا، واقتاده إلى أحد سجونه الظلامية، دون محاكمة.
"لما وصل المستشفى، كان أوّل أيام عيد الأضحى المبارك، قعدنا مع الدكتور كان "خالصاً" (حالته الصحية سيئة)، فحص الأطباء ضغط دمه،وأخذوا صور أشعة لشرايينه، التي بدت مسدودة، وعانى من نزيف في الدم، أعطوه كميات دم كبيرة، لكن أصابه تجلط الدم"؛ والكلام لأبيه.
لم يجر الأطباء له أي عمليات جراحية؛ يتابع أبوه أن السبب "كان تعبير الأطباء عن خشيتهم من أن أي عملية لفتح شرايينه، ممكن أن تسد شرايين ثانية وتقضي على الشاب، فكان الاكتفاء بالمسكنات، لمعالجة انتفاخ البطن، والنزيف في المعدة"! حسن لم يتحدث إلى والده، بل كان مكتفيًّا ب"الإشارات"، أو أن أوجاعه كانت تجبره على الاكتفاء؛ "كان قليلاً ما يتحدث إلينا، ويعطينا إشارات مثلاً لإقفال الشباك، أو إطفاء الضوء، ويظل أغلب الوقت صافنًا (ينظر دون كلام) مش عارف بفكر في إيش"! أهم الكلمات التي سمعها من والده، هي: "شد حيلك، إن شاء الله بتتحسن، وبتقوم بالسلامة.."؛ خلال فترة تزيد عن أسبوعين، قضاهما في المستشفى، بعد أن كان يملأ السجن دمًا من جسده، وخلاياه، وشرايينه، فيما الاحتلال يقابل كل ذلك ب"أكامول"، مخصص لتسكين الآلام الخفيفة في الرأس.
شهادةٌ في "الانتفاخ"! "من تاني يوم في عيد الأضحى، زرناه في المستشفى، كانت حالته صعبة أكتر مما تصور، طلع لا بتحرك ولا اشي، منفّخ، وعليه الأجهزة، في العناية المركزة، وبعد أسبوع كامل حكى كل إشي صار معاه"، تتابع والدته رواية المشهد، هذه المرة.
كان "الوضع مش من يوم واحد، تضخم الكبد والكلى والشرايين تفجرت، لأكثر من شهر؛ بسبب الإهمال الطبي، كنت أرجّع (أتقيَّأ) الدم، وبطني منتفخ، ورأسي يوجعني"؛ تلك كلمات "خالدة" وصلت من الشهيد الترابي إلى والدته! هي تقول ل"فلسطين": "الحمد لله أننا صبرنا، وقابلنا الأمر بالإيمان بقدر الله"؛ مُتبعةً كلامها بأن ابنها الذي أنجبت إلى جانبه ولدا آخر، وابنتين، كان يعاني من مرض اللوكيميا، أي سرطان الدم، مذ كان يبلغ من عمره 11 سنةً.
ولئن كانت أمه صابرةً، فهذا حال آمنة أيضًا، التي تحنّ لمواقفه معها، إذ "يقرصها من وجهها"، فتقول له مازحةً: "روح اقرص إمك"، فيبتسم في وجهها، ابتسامةً ظلت عالقة في ذاكرتها
إلى الآن.

آمنة لما زارت ابنها الأسير في سجن "مجدّو"، بعد ذلك أخبرها بأن حسن يصارع المرض، وأن إدارة سجون الاحتلال تعامله كما تعامل بقية الأسرى، وفق معادلة: "إذا كنتَ مريضًا بألم في الرأس، أو الأذن أو مصابًا بالسرطان وأعتى الأمراض، فالعلاج: أكامول"! آخر أيامه! "يا جماعة في رائحة كريهة من تمي (فمي) ومناخيري، كل ما أروح للطبيب، بيعطيني حبة أكامول أو مسكن، ويقولي عدها بتروح، لكن أنا دايخ، وما بقدر أوقف، حاسس بألم حاد، وحرارة عالية"؛ خاطب حسن، ابن خالته المعتقل في ذات السجن، قبل نقله إلى المستشفى.
طلب حسن الذهاب إلى "الحمّام"-  ÙŠØ±ÙˆÙŠ زوج خالته-  ÙˆÙ‡Ù†Ø§Ùƒ رأى الدماء تخرج من أنفه، وفمه بشكل لا يُصدّق، طلب الطبيب فأعطاه مسكّنًا أيضًا، وفي منتصف الليل زاد وضعه الصحيّ سوءًا، فقد الوعي، ونقلوه إلى المستشفى فاقد الوعي.

يتابع: "هذا لدرجة أن دمه كان يصل إلى أدنى مستوياته، كان باختصار في صراع مع الموت، يعطونه وحدات دم، بلا نتيجة، ليس لديه كبد أو طحال، وشرايينه مسدودة، الاحتلال نقله إلى المستشفى ليس رأفة فيه، لكن خوفًا من ردة فعل الأسرى".
صارع حسن الموت إذن؛ بعد أن كان الاطمئنان قد تسلل إلى أسرته تجاه صحته، قبل أن يأسره الاحتلال، فهو مصاب بسرطان الدم مذ كان طفلاً، ويخضع للمراقبة الصحية، وهذا ما كان يدفعهم إلى التفاؤل، الذي ما أبقى الاحتلال منه شيئًا! الاحتلال لم يأبه بأن حسن مصاب بالسرطان، واعتقله برفقة 13 آخرين من قرية صرة غربي نابلس المحتلة، وبينما كان الاحتلال يؤجل "محاكمته" في كل مرة، لم يكن من السهل على أبويه زيارته، كونهما "مرفوضيْن أمنيًّا"! "ابنُكم فارق الحياة"Ø› إذن حسن استرد حريته، لكن كشهيد، يُضاف إلى قائمة تضم ما يزيد عن  200 من شهداء الحركة الأسيرة، الذين لا تزال السلطة تسكت عن حقوقهم، وتجمّد الأوراق التي تملكها بدلاً من ملاحقة الاحتلال.
تلقى أبوه وأفراد عائلته الخبر ب"صبر وإيمان"، ولم يبق لهم إلا المطالبة بالإفراج عن بقية الأسرى قبل أن تفتك دولة الاحتلال بحقوقهم الإنسانية، وتذكّر طموحات ابنهم العشريني؛ "الاستقرار والزواج، والحصول على مهنة"، لعله يحققها في الجنة!.

يختم زوج خالته الكلام: "حسن نموذج، وورقة في الشجرة الفلسطينية، نأسف على سقوطها من الشجرة، ونتمنى أن لا يكون مصير كل الأسرى لاسيما المرضى، في سجون الاحتلال هو ذات مصير حسن"!.

(المصدر: صحيفة فلسطين، 7/11/2013)