قراءة في فقه الشهادة

كتب السيد سابق في "فقه السنة" (ص 458-459 المجلد الثاني) "واما قاتل نفسه فالله سبحانه وتعالى يحذر من ذلك فيقول ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة﴾ (البقرة 195) ويقول: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ (النساء 29) وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها ابداً. ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدته فحديدته في يده يتوجا بها في نار جهنم خالداً فيها أبدا".

وروى البخاري عن أبي هريرة أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار والذي يقتحم يقتحم في النار" (يقتحم يرمي نفسه من عل). وعن جنب بن عبد الله قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ÙˆÙƒØ§Ù† فيمن قبلكم رجل به جرح، فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقا الدم حتى مات قال الله تعالى بادرني عبدي بنفسه: حرمت عليه الجنة» (رواه البخاري).

هذا حكم الإسلام على من يقتل نفسه انتحاراً بالسم أو برمي نفسه من عل أو بحديدة أو بطعن أو بخنقها أو بحز يده أو رقبته بسكين لينزف حتى الموت. فما لمسلم أن يقتل نفسيه يأساً من حياة، أو جزعاً من جرح، أو مرض، أو هروباً من دين أو فقر، أو جوع أو خوف أو مصاعب أو سجن أو عذاب، فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان بيده، ونفخ فيه من روحه، وجعل الملائكة تسجد له، وسخر له ما في البر والبحر والسماء، واستخلفه على الارض، وفطره على التوحيد، واعطاه القوة بروحة وعقله ويديه وبدنه.. وعلمه ما لم يعلم، واتاح له ان يعرف الكون، ويحكم ويمسك بالآلة، ويعمل ويبدع ويترقى فيحسن تأمين طعامه، ومنامه، وتنقله، وراحته، ويحسن تغذية روحه وعقله واحاسيسه وبعث إليه بالأنبياء والرسل ليصححوا ما اعوج من امره. وليرشدوه إلى سواء السبيل. وكانت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسل بالقرآن والسنة الشريفة ليتم نعمة الله التي أنعم بها على الإنسان فهل بعد هذا من تكريم للانسان فوق هذا التكريم. ولهذا لم يكن للانسان ان يقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق: "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق"، وحدد القرآن هذا الاستثناء تحديداً دقيقاً كقتل الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة، ولكن الله تبارك وتعالى اتم هذا التكريم للانسان على الأرض بان جعل له غاية أكبر من تكريم حياته وتأمين احتياجاته وسائر شؤون استخلافه على الأرض، فقد جعل له الفارقة الكبرى: وهي عبادة الله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات 56). فهذه الغاية أكبر من الحياة نفسها وفي أعلى مراتب تكريم الانسان، وما هذه الحياة الدنيا الا فانية، ولكنها مسرح الصراع بين الايمان والكفر، كما بين عبادة الله وعبادة الاهواء والشياطين. فعلى الإنسان المكرم ان يختار بين الايمان والكفر أو بين عبادة الله وعبادة الاهواء والشياطين وما بينهما من مشتبهات كالفسق والفجور وارتكاب الكبائر. ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ (الإنسان 3). وما جزاء ذلك الا جنات الخلد أو إلى خلد في نار جهنم. وهذا ما يجعل الحياة جسراً للإنسان إلى الجنة إن أراد أن يكون عابداً لله شكوراً، أو جسراً إلى النار إن أراد أن يكون ناكراً لله أو جاحدا وكفوراً. وما عمر الإنسان في هذه الحياة، وان بدت للبعض سنين عدداً، إلا عبوراً خاطفاً. ان هذه السنين حتى لو وصلت بالفرد إلى مائة عام لا تساوي في عمر الكون، وفي عمر الخلد في الجنة أو في النار إلا لحظة. وهذه اللحظة لا تكاد تسمى أو تذكر في الزمن الكوني ناهيك عن الزمن الرباني في الآخرة. إنها أقل من واحد على مليون من طرفة عين. ولكن الحياة على الرغم من ذلك غرورة للإنسان، تجعله يحسب أن ماله قد خلده أو أن قوته أو صحته أو شهوته باقية، إلا من رحمه ربه فعرف المعنى الذي أراده رب العالمين من خلق الإنسان وحياته. وما أعطاه من تكريم في العقل والروح والبدن والإبداع والقدرة فعرف السبيل فكان عابداً لله مشكورا. بل كان مجاهداً في سبيل الله ليجعل كلمة الله هي العليا، بهذا قد استخدم حياته وسخرها، بل يكون قد عبر جسر هذه الحياة الدنيا على أحسن وجه أراده الله وقد جعل مآله الجنة حيث النعيم المقيم والخلد الأبدي.

وهذا ما جعل للجهاد في سبيل الله أحكاماً تخصه وحده تختلف عن الأحكام المتعلق أن يلقي نفسه إلى التهلكة، وما ذكر من تحريم لقتل النفس إلا بالحق. بل ان هذه الأحكام تكمل تلك الأحكام ولا تناقضها، وتجعل الإسلام كاملا في تكريمه للإنسان من حيث الحفاظ على حياته وتحريم قتل النفس إلا بالحق ومن حيث بذل النفس رخيصة في سبيل الله فكلا الأمرين واحد. وهذا ما يميز الإسلام عن النظريات والفلسفات التي تسمح بقتل النفس وهدر دم الأفراد والجماعات لغايات الاستعباد والاستعمار ونهب الشعوب وتكريس حكم الطغيان، وتجعل الغاية المادية تسوّغ الوسيلة. كما يميزه عن النظريات والفلسفات التي تجعل المحافظة على حياة الإنسان غاية تعلو على غاية العبادة، وإقامة العدل، وإحقاق الحق، مما يُفسح المجال للطاغوت ان يعلو ويفسد في الأرض دون رادع. أما الإسلام فقد بلغ فيه التوازن في هذا الأمر مبلغاً عجيباً، فأحكامه التي تكرم حياة الإنسان وتحرم قتل النفس إلا بالحق (تأمل في هذا الاستثناء إلا بالحق) وأحكامه التي تكّرم حياة الإنسان بان تجعل أسمى غاياتها عبادة الله وتجعل الجهاد والاستشهاد في سبيل الله أعلى مراتب هذه العبادة، حين تؤخذ جميعاً تستقيم حياة الأمة الإسلامية ويصبح الإنسان المسلم أرقى نموذج أنساني حضاري.

يقول الله تعالى في محكم تنزيله ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج 39).. و﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُم﴾ (البقرة 216).. و﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾ (النساء 71).. و﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء 95). وأمر الله المؤمنين أن يثبتوا في المعارك.. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾ (الأنفال 45).. ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ (التوبة 39).. ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة 111) .. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ﴾ (الأنفال 15). وإذا كان رب العالمين عز وجل أراد من حيث الأساس ان يحافظ الإنسان على نفسه ولا يلقي بها إلى التهلكة ولا يقتل النفس التي حرم الله الا بالحق فقد جعل الجهاد لإعلاء كلمة الله في أعلى مراتب التكريم للإنسان. وفي الجهاد قتل وقتال، وهذا ما جعل الذين يقتلون في سبيل الله شهداء أحياء ينتقلون إلى الفردوس بلا مرور بعذاب الموت والقبر وجعل مرتبتهم أقرب ما تكون من درجة الأنبياء والرسل عند الله. مما جعل طلب الشهادة أمنية لكل مسلم حقيقي يتبع التعاليم الربانية في الجهاد في سبيل الله ويسير على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، والا ما معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم اقتل ثم أحيا ثم اقتل (رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، والبيهقي ، والنسائي وورد في أحاديث الجامع الصغير وكنز العمال. أفلا يعني هذا الحديث أن أعظم أمنية لمسلم مؤمن هو أن يقتل في سبيل الله، فما من غاية لحياة المسلم في هذه الدنيا أعز من أن يحياها في سبيل الله ويقتل فيها في سبيل الله. وهذا توجيه رباني يصلح لكل زمان ومكان. لان الجهاد في سبيل الله حكم تبليغي. أما كيف يأخذ مجراه في الزمان والمكان أو كيف تدار شؤون الحرب مع الكفار إعداداً ودفاعاً وهجوماً وغير ذلك من حالات فأمر مفوض "للسياسة الشرعية" أو حكم الإمامة، (أنظر فقه السيرة للبوطي، الطبعة الثامنة ص219). ويقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في هذا الصدد ان الحاكم يقرر شؤون الدفاع والإعداد والهجوم.. إلا إذا داهم العدو المسلمين في عقر دارهم وبلادهم فان عليهم دفعه بالقوة مهما كانت الوسيلة والظروف. ويعم الواجب في ذلك المسلمين والمسلمات كافة شرط الحاجة وتوفر مقومات التكليف (219). وقد قرر أغلب الفقهاء فرض الجهاد على الجميع في حالة دهم العدو المسلمين في عقر دارهم وبلادهم.

أما إذا وقفنا الآن لندرس وضع المسلمين في فلسطين فسنجد العدو المشترك والكافر قد دهمهم في عقر دارهم وبلادهم، فشنت أغلبهم من الديار، وأعمل في رقابهم السيف والنكال، وزج بعشرات الألوف بالسجون، وانزل فيهم ألوان العذاب وراج يقتل منهم كل يوم ويسقط الجرحى بالعشرات. وعمد إلى تهويد الأرض وانتهك المقدسات، وجعل أولى القبلتين وثالث الحرمين المسجد الأقصى الذي بارك الله من حوله وصخرة الإسراء والمعراج مهددين بالإزالة لإقامة ما يسمى بالهيكل مكانها. ووضعت اليد المشركة على الحرم الإبراهيمي في مدينة خليل الرحمن وجعل العدو من وجوده في أرض فلسطين قاعدة عسكرية ذات أنياب ومخالب فتاكة بكل ألوان الأسلحة لتمعن في إذلال بقية الدول العربية والإسلامية، وتسهم في تثبيت خطط الهجمة الغربية Ù€ الصهيونية العالمية التي وضعت لتكريس نتائج هدم دولة الخلافة العثمانية وفي مقدمتها خطة سايكس بيكو، وهي خطة تقسيم بلاد المسلمين (البلاد العربية وغير العربية) إلى عشرات الدويلات وإقامة نمط الدولة العلمانية في كل منها لتكرس التجزئة، وتجعل من كل جزء مصدر شلل للجزء الآخر، ولتجعل من دولة التجزئة وعاء التغريب والحضارة الغربية. هذه الفكرة التي تفتك بالجسد الإسلامي كالسم الزعاف. وذلك حين تحل محل الإسلام وكلام الله. ومن ثم ليجعل من تلك الدولة ضمن انتماء يعيد، أداة قمع واضطهاد لكل من يقول ربنا الله…

فادى دولة الوطن القومي اليهودي في فلسطين لا يقتصر على احتلال جزء من دار الإسلام وهو فلسطين وإذلال أهلها ونشر الفساد اليهودي فيها فحسب وإنما هو أيضاً جزء مركزي في خطة تمزيق الأمة الإسلامية وتغريبها وإخضاعها واستعبادها وشل إرادتها ووضع النير الأبدي في عنقها. ومن هنا لا يمكن ان يعطل الجهاد اذا لم يوجد الحاكم الذي يأمر به ولا يمكن ان ينتظر المسلمون في فلسطين وغير فلسطين عودة دولة الخلافة الإسلامية التي تأمر بالجهاد حتى يكون جهاد… وانما كان لابد من أن يجاهد كل مسلم توفرت فيه مقومات التكيف أو كل جماعة إسلامية بقدر استطاعتها واجتهادها ووفق ما تراه مناسباً، فنحن أما الحالة التي يمكن ان يخرج فيها المسلم إلى الجهاد دون إذن. وقد أجمع علماء الأمة وقادتها الإسلاميون المعاصرون منذ بدء الاجتياح الغربي Ù€ الصهيوني لفلسطين وحتى اليوم على اعتبار الجهاد بالنسبى إلى أهل فلسطين والى من في ثغور تماس مع هذا العدو فرض عين لابد من ان يقوم به كل من استطاع إليه سبيلاً فعدو الإسلام والأمة دهم البلاد، وأذل العباد، وأمعن في الكفر والفساد، ولم تسلم منه الأعراض ولا المقدسات ولا ديار الجوار وجوار الجوار. ولم ينفع معه ومع حلفائه ما عرضه بعض الحكام من نداءات للتخفيف من هذا الحال. ولم توقف التنازلات فتكة السرطان بجسد فلسطين والأمة. بل زاد الضعف في السؤال أعداء الأمة تمادياً وطغياناً، وزادهم كفراً وعدواناً ولم ينج من الأذى حتى الذين استكانوا وطلبوا الأمن والنجاة بأي سبيل. فخطة صهيون وأمريكا، بصورة خاصة، تتجه إلى ان تهود فلسطين تهويداً كاملا لا رجعة فيه. وتتجه إلى جعل دولة صهيون قوة عسكرية ضاربة تستمر باحتلال الجولان وأجزاء من لبنان، ومهيأة لاحتلال بلاد إسلامية أخرى أو ضربها بالطائرات والصواريخ. لقد أرادوها قوة عسكرية ترتجف منها حكومات التجزئة وتتمنى مهادنتها. فتسلم قيادها لأمريكا حتى تأمن شرها ويصل التسليم إلى خضوع وتبعية، بل حتى إلى تنفيذ خطط الغرب والشرق في محاربة الإسلام والمسلمين. ولم يشذ الشرق الماركسي عن هذه التوجهات فاتفق مع الغرب الرأسمالي على الاعتراف بدولة إسرائيل واعتبار وجودها أمراً لا يمس وان اختلفا في التنازع على من يكسبها إلى جانب سياساته ومخططاته.

ان هذا الحال لا يرضاه للمسلمين رب العالمين، ولا يمكن ان يطيقه من يصلي مولياً وجهه إلى قبلة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، والساكت عليه ليس شيطانا أخرس فحسب بل هو أكثر من ذلك لان العدو الصهيوني في فلسطين أكثر من ظالم، وأكثر من حاكم جائر، وأكثر من طاغية، وأكثر من فرعون. فهو الكفر والشرك والشيطان والطغيان وعداء الإسلام والمسلمين في آن واحد، وهو السرطان الذي يفري بدن الأمة، ولا مفر من ان يوقف عند حده ويصار إلى اجتثاثه، ولا يكون ذلك إلا بان يقاوم بكل وسيلة يقرها الشرع ولابد من ان تتضافر على ذلك لا جهود شعب فلسطين فحسب، وإنما أيضاً، جهود الأمة الإسلامية كلها. فهو ليس بالعدو المحلي وإنما هو عدو عالمي جزء منه في فلسطين وأجزاء منه منتشرة في قارات الأرض كلها، هو رأس حربة تفتك بالأرض المباركة بينما بقيتها في عواصم الاستعمار والطاغوت العالمي تمده بجسر لا ينقطع من الإمداد العسكري والمادي والبشري والسياسي والإعلامي والمعنوي والجاسوسي، وإذا كان من المشروع في المقابل ان تتحرك كل القوى الإسلامية الحية في الأمة لتتدبر سبل النهوض وسبل المشاركة بواجب مواجهة هذا التحدي الكبير الخطير، وان كان من المشروع ان تجتهد كل منها ذلك وفق ما تراه طريقاً اقرب وأنسب لظروفها وأمصارها، فان السبيل واضح بيّن بالنسبة إلى أهل الرباط والجهاد تحت الاحتلال في الأرض المباركة فلسطين، فما على هؤلاء إلا ان يستخدموا، كل وفق اجتهاده، طريق الصمود في الأرض والمحافظة على المقدسات، والهوية الإسلامية، وتثبيت الناس في خوض كل ألوان المواجهة، والمقاومة السلبية والايجابية، المسلحة وغير المسلحة، والتي يكون التغيير فيها ثبات (سرايا منفردة) أو جميعها، ويكون بالجماهير المتدفقة في الشوارع ترفع راية لا اله إلا الله، والله أكبر أو يكون بمعارك الحجارة يقاتل بها الأطفال والفتيان والنساء. أو بمعارك المواجهة المسلحة تخوضها سرايا الجهاد الإسلامي. ولا بد من أن يتم ذلك كله بأعلى درجات الاتكال على الله، والتقوى والإيمان، وطلب الشهادة، بأعلى درجات التضحية فيقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة. ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء 74).

على أن المهم هنا أن نركز، بصورة خاصة على واجب القتال في سبيل الله حين يتخذ شكل المعارك والعمليات الاستشهادية، وذلك بسبب أهمية هذا الشكل وضرورته والحاجة إليه، أما المقصود بالعمليات الاستشهادية في حالات القتال التي يدخل فيها المجاهد، أو قلة من المجاهدين، في اشتباك مع العدو يتم بالثبات حتى الاستشهاد من أجل إنزال اكبر قدر من الخسائر بقواته العسكرية، أو تلك العمليات التي لا يمكن القيام بها أو تحقيق الهدف منها ما لم يدخل المجاهد، أو قلة من المجاهدين، في غزوة عاصفة منفضة على قوات العدو ويحسم فيها القتال خلال لحظات يتم فيها التفجير بما لا يسمح للعدو فرصة لإبطاله، أو إفشاله، أو تجنب الخسائر منه. كما لا يمكن ان تتم النتائج المرجوة ضد الهدف المحدد إلا من خلال هذا التفجير الذي يضطر فيه المجاهد ان يثبت في تلك اللحظة فلا يولي الأدبار. ولا يفكر بقرار، فيستشهد في هذا الاقتحام من أجل إنجاح عملية كبرى فيها نصرة للدين والجهاد وفيها إنزال أكبر الخسائر في العدو الكافر وفيها تحطيم لمعنويات قواته العسكرية، ودب الرعب في صفوفها.

وقد يخطر على بال البعض أحياناً أن يقارن بين هذا الطراز من القتال في سبيل الله وبين قتل النفس التي حرم الله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ (النساء 29). وأن المجاهدين الذين يسلكون هذا الدرب للشهادة إنما يلقون بأيديهم إلى التهلكة. ان مثل هذا الفهم هو من الخطورة بمكان بحيث يستدعي أن نقف بين يدي فقه الجهاد لنستجلي الصورة من خلال ما ورد فيه من نصوص عن الله ورسوله، وما جاء فيه من سيرة عملية لجهاد النبي صلى الله عليه وسلم وجهاد صحابته من بعده، بل جهاد الأمة الإسلامية بأسرها على مدار تاريخها الحافل.

ورد عن الحافظ بن كثير في تفسيره لآية قتل نفس أن المقصود بذلك هو عن طريق ارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل، أو بالانتحار سماً أو طعناً أو جرحاً أو رمياً من حالق أو شجا بحديدة.. الخ (مختصر تفسير أبن كثير، المجلد الأول ص379 طبعة 7، سنة 1402هـ). ان هذه المعاني تقودنا بداية إلى أحد أهم جوانب المسألة ألا وهو جانب النية.

فالنية في الجهاد مسألة معتبرة ورد فيها العديد من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تحض على إخلاصها لله سبحانه وتعالى بل والأكثر من ذلك أن الله تبارك وتعالى رتب ثمرة الجهاد في اعتبار من يقتل من المجاهدين شهيداً مقبولا عند الله من عدمه على مسألة النية، والأحاديث التي وردت في هذا المجال كثيرة محورها قول الرسول صلى الله عليه وسلم "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله" ثم حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم "أن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه: رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمة فعرفها قال: فما عملت فيها؟. قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى القي في النار.." (حديث).

اذن فالنية هنا لها كلمة الفصل. وان عدل الله سبحانه الذي اقتضى إثباتها على الإنسان سلباً، بمعنى أن يرد عليه يوم القيامة ما حسبه أهل الدنيا جهاداً وشهادة، لعدم صدق نيته فيسحب على وجهه ويلقى في النار، لا يعقل أن يحرمه من ثمرتها إيجاباً، بمعنى ان يقتل منه يوم القيامة ما حسبه أهل الدنيا "قتلا للنفس" كشهادة يرقي بها أعلى درجات الجنة، وذلك لحضور النية وصدقها.

وعليه، فالمجاهد الذي يزج بنفسه في قتال في سبيل الله، فيقتل وهدفه الميداني قتل العدو والانتصار لدين الله استجابة لأوامره سبحانه وتعالى، لا سأماً من الحياة أو تخلصاً منها (الانتحار). كيف يمكن أن يحكم على فعله هذا بأنه قتل للنفس أو تهلكة؟