الشهيد القائد محمود طوالبة: قائد معركة جنين الأسطورية

رحل محمود طوالبة بعد أن أودع في كل بيت فلسطيني وردة مغروسة وسط الدار لا ترويها المياه تذبل أبداً.. ينظر إليها الناس فيذكرون محمود الذي أودعهم هذه الأمانة.. يقسمون (لن نقيل.. فقد سقاها طوالبة بدمه فما ولن نستقي لرحاب الأقصى الطاهر، وحينها ينتصر المؤمنون ويفوز ركب الشهداء الأحرار الذين تقدم) حتى تنبت الوردة في من بينهم محمود طوالبة بعد أن سجل وإخوانه المجاهدين مفخرة جديدة في تاريخ الأمة اسمها (مخيم جنين).
بدأ الليل يرخي سدوله مساء يوم السابع من نيسان/ إبريل عام 2002، حينها رفع أبو عبد الله كفيه إلى السماء متمتماً بدعاء خافت، مبتهلاً إلى الله عز وجل أن يسدد رميته ويرزقه الشهادة في سبيله مقبلاً غير مدبر.
وفي أحد خنادق الجهاد الأولى حيث كان في أيام مطاردته مع إخوانه المجاهدين، غطى أبو عبد الله وجهه بكفيه وغاب في عالم الذكريات إلى ذلك اليوم القريب الذي طلّق فيه الدنيا الزائلة، وغاب عن زخرفها، تاركاً المال والأهل والولد بعد أن خاض ميادين الجهاد والمقاومة في كافة المواقع، لا يعرف له الخصم طريقاً.
ويكاد طوالبة أن يتحول إلى أسطورة بعد أن ارتقى سلم المقاومة تدريجياً وأتقن مهارات تصنيع العبوات وحرب العصابات، واستشهد بعد أن أصبح من أكثر من تطالب حكومة الاحتلال باغتيالهم، وذلك خلال الصمود البطولي ضد فوات الاحتلال التي حولت مخيم جنين إلى ركام.

الميلاد والنشأة
ولد الشهيد القائد محمود أحمد محمد طوالبة في أحضان مخيم جنين للاجئين بتاريخ 19/3/1979م، لعائلة فلسطينية متدينة، وتلقى تعليمه الأساسي والإعدادي في مدرسة وكالة الغوث قبل أن يتفرغ للعمل في مجال البناء، في أحد المحلات التجارية بمدينة جنين.
وفي صغره اعتاد محمود ارتياد المساجد والصلاة فيها وعرف بتدينه وورعه، وتزوج طوالبة ورزق ببنت أسماها دعاء (3 سنوات)، وولد أسماه عبد الله (3 شهور)، وبقيت حياة هذا البطل هادئة حتى بداية أحداث انتفاضة الأقصى المبارك في العام 2000.
وفي مخيم جنين وسط المنازل الصغيرة المتلاصقة أمضى محمود حياته القصيرة التي لم تتجاوز 23 عاماً، والتي أضحى فيها بطلاً شعبياً يرتقي فيها إلى درجة الأسطورة بالنسبة لأهالي المخيم ممن تبقى منهم بعد أن سويت منازله بالأرض ما بين 11 و13 نيسان 2002.
وفي لقاءات مع والدته وشقيقه الأكبر وأصدقائه ترتسم صورة شاب ملتزم وصاحب عزيمة، يقول عنه الفلسطينيون: أنه كان من الممكن أن يعيش حياته كأي إنسان، لولا الاحتلال وجرائمه.

صفحات مشرقة
ولد الشهيد القائد محمود الطوالبة في مخيم جنين لأسرة فلسطينية مجاهدة لجأت إليه بعد نكبة عام 1948 بعد أن دمر الاحتلال منازلهم وشردهم من قريتهم نورس القريبة من حيفا. والشهيد هو الابن الثاني في أسرته المكونة من 8 أشخاص وتقول والدته منذ صغره بدت عليه علامات التأثر بما تعرض له شعبنا من مآسي ونكبات, فتأثر بواقع معاناة اللجوء والحياة القاسية في مخيم جنين، فكبرت معه روح الانتماء للوطن والاستعداد للمقاومة وكراهية المحتل الغاصب الذي حرمه من حقه في العيش بأرضه كباقي البشر, وعندما كان يتحدّث والده عن مجازر الاحتلال وإرهابه كان يتمنى أن يكبر بسرعة لينتقم ويثأر من الصهاينة القتلة. فكان حديثه الدائم منذ الصغر عن فلسطين وحق العودة وحلمه الشهادة لذلك لم يتأخر في تحقيق حلمه، فانخرط في صفوف المقاومة وحركة الجهاد الإسلامي في ريعان الشباب, وبدأ يقضي أوقاته في المسجد ودور العبادة وساحات المقاومة ودعوة الشباب للعودة إلى الدين والإسلام وحمل لواء الجهاد. وفور اندلاع انتفاضة الأقصى لم يكتفِ طوالبة بالمشاركة في المواجهات والمسيرات بل شرع في تشكيل المجموعات السرية التابعة لحركة الجهاد الإسلامي والتي عملة على تطوير عمل المقاومة، والارتقاء بوتائر الفعل الجهادي المقاوم عبر رفد انتفاضة الحجر بالسلاح وعمليات المقاومة التي سرعان ما طورها إلى عمليات استشهادية.

طوالبة وانتفاضة الأقصى
ومع انطلاقة انتفاضة الأقصى نهاية شهر أيلول/ سبتمبر 2000 كان للشهيد طوالبة دور مميز وكبير، فالتحق بصفوف حركة الجهاد الإسلامي وسرايا القدس بعد أن تعرف على الشهيد محمد بشارات أحد أبرز قادة السرايا وعمل معه وقاتل إلى جانبه، وشاركه في كثير من عمليات إطلاق النار على الطرق الالتفافية التي كانت تمر منها قوافل المستوطنين والجيش الصهيوني.
وبعد أن اشتد عوده وتمكن من استعمال السلاح وتصنيع المواد المتفجرة، عُين قائداً عسكرياً لسرايا القدس في مخيم جنين، وعمل من خلال موقعه على الإشراف والتنفيذ المباشر لكثير من العمليات الاستشهادية التي قامت بها سرايا القدس.

رحلة الجهاد
صار طوالبة بعد عدد من العمليات الناجحة بنداً من بنود المحادثات الأمنية بين السلطة الفلسطينية والحكومة الصهيونية التي مارست ضغوطاً حتى قامت السلطة باعتقاله في أواخر العام 2001 مما أثار تظاهرات شعبية استمرت ثلاثة أيام أمام أحد المراكز الأمنية قرب جنين حيث كان معتقلاً، ونقل لاحقاً إلى سجن نابلس حيث نجح في الفرار بعد أن استهدفت المقاتلات الجوية الصهيونية المعتقل بهدف القضاء على من فيه.
وفي مقابلة مع إحدى القنوات الفضائية بتاريخ 17/2/2002 قال الشهيد القائد محمود طوالبة: "إن ما يقوم به العدو من اعتقالات واغتيالات وجرائم ضد ناشطين ومجاهدين فلسطينيين لن يؤدي إلى وقف جهاد شعبنا"، وقال أيضاً لوسيلة إعلامية أخرى: "إن عمليات الاغتيال لن تردعنا ولن تردع الجهاد الإسلامي، ولا كتائب شهداء الأقصى، ولا القسام، ولا الشعب الفلسطيني كله، بل سنواصل نضالنا واقسم بالانتقام لدماء رفاقي".
تعرض الشهيد طوالبة كذلك لعدة محاولات اغتيال من بينها محاولة الاغتيال التي سقط فيها الشهيدان مجدي الطيب وعكرمة ستيتي من كتائب شهداء الأقصى، حيث استطاع أن ينزل من السيارة قبل إصابتها بصاروخ طائرة الأباتشي بلحظات، واستطاع أن ينجو كذلك من تفجير المحل التجاري الذي كان يعمل فيه مع أخيه بعد اكتشاف العبوة الناسفة في الوقت المناسب، إضافة إلى مغادرته لسجن الجنيد حيث كان معتقلاً هناك قبل قصفه بالطائرات بوقت قصير.

جهاد ومقاومة وتضحية
كرّس الشهيد طوالبه كل لحظات حياته للمقاومة والتخطيط للعمليات الاستشهادية التي أثارت الهلع والرعب في صفوف الصهاينة الذين وضعوه في قائمة أبرز المطلوبين الخطيرين التي سلمت "للسي أي إيه الأمريكية. وكان العدو الصهيوني و(CIA) الأمريكية قد طالبوا السلطة الفلسطينية بكبح جماحه واعتقاله بعد إخفاق جهاز الشين بيت في اعتقاله وتصفيته, وقد شهد مخيم جنين مسيرات غاضبة على مدار أكثر من أسبوع بعد اعتقاله من الأجهزة الأمنية التي واصلت احتجازه لأكثر من شهرين وتمكن من الهرب من سجن نابلس بعد قصف الصهاينة له فعاد لمخيم جنين الذي استقبله بمسيرات حاشدة عبرت عن تقدير الجماهير الفلسطينية له واعتزازها الشديد به. وقد حظي باستقبال شعبي حاشد هتف المشاركون به بحياته وأشادوا ببطولاته التي جسدها في حياته.
ويروي أهالي مخيم جنين أن أهم عوامل صمود المقاومة في معركة المخيم الأخيرة المواقف البطولية لطوالبة مع قادة فصائل المقاومة الأخرى, فقد شوهد في ميدان المعركة يقود الهجمات ويتصدى ببسالة لجنود الاحتلال، وقال الناجون من الموت في المخيم أن طوالبة كان يرفض النوم ويحرس مجموعات المقاتلين ويزور الأهالي في بيوتهم ويطمئن عليهم, وقد نصب عدة كمائن لجنود العدو، وفجّر منازل وأحياء بهم، وتمكن لمرات كثيرة من محاصرة الجنود في الأزقة وقتالهم وتكبيدهم خسائر فادحة.
وينقل الأهالي عن محمود إصراره على المقاومة ورفض دعوات الاحتلال للاستسلام. وفي حي الحواشين نجح طوالبة في محاصرة دورية من الجنود داخل منزل واشتبكوا معهم لعدة ساعات، وأكّد الأهالي أنهم سمعوا صرخات وعويل الجنود الذين لم تتمكن الطائرات من إنقاذهم رغم قصفها للموقع بعشرات الصواريخ وقد قتل خلال ذلك عدد من الجنود.

معركة مخيم جنين
يقول أحد مقاتلي المخيم إنَّ الشهيد طوالبة في أول أيام المعركة ذهب إلى أحد البيوت التي كان موجوداً فيها أهله، وبعد أن ودع زوجته وطفلاه دعاء وعبد الله ارتدى بدلته العسكرية وخرج لقيادة المجموعة المرابطة في حارة بيت الطوالبة، فقام على الفور بتلغيم بيته وجميع البيوت المجاورة، وبعد أيام قلائل عندما اقتحمت قوات الاحتلال المنطقة قام الشهيد القائد ورفاقه بتفجير عدد من العبوات الناسفة مما أربك الجنود الصهاينة وأجبرهم على الانسحاب.
ويقول أحد شهود العيان: لاحظ الشهيد محمود عدداً من الجنود ما زالوا في منزله فقام بحركة سريعة تمثلت في هجوم معاكس، وضرب عدد من العبوات التي كان يحملها على ظهره مما أدى إلى مقتل أربعة جنود على الفور.

استشهاده
يوم الاثنين 7/4/2002 وبعد مقاومة عنيفة وضارية من المجاهدين لعدة أيام، استطاع العدو تشخيص المكان الذي يتواجد فيه القائد الفارس محمود طوالبة، عقب الكمين البطولي الذي نفذه المجاهدون الأبطال ضد جنود الاحتلال، وقُتل فيه على الفور ثلاثة عشر جندياً صهيونياً وأصيب سبعة آخرون، وقد ارتفع عدد القتلى لاحقاً إلى خمسة عشر جندياً باعتراف العدو، بعد هذه العملية البطولية النوعية والجريئة صب العدو جحيم ناره، تراجع الشهيد محمود مع عدد من المجاهدين منهم رفيق دربه الشهيد عبد الرحيم فرج، إلى منطقة جورة الذهب في المخيم، حيث حوصر هؤلاء الشهداء في أحد المنازل فقامت الطائرات الصهيونية بقصف المنزل مما أدى إلى استشهاد محمود ورفاقه.

زوجة الشهيد
قائلة: لا يسعنا إلا أن نترحم عليه وندعو الله أن يطمئن قلوبنا عليه, محمود بطل ومنذ زواجنا كان حديثه المفضل عن الجهاد والشهادة والاستشهاد. وإذا حقق الله له أمنيته فإننا نباركها له وندعوه أن يثبتنا على عهده ودربه وقسمه, وقد شاهدته عدة مرات خلال الهجوم فكان يقبّل ولده عبد الله ويقول لي: "ادعي لي بالشهادة وازرعي هذه الروح لدى عبد الله ودعاء"
أما والدته قالت: "الله يرضى عليه، مش كل واحد بيحصل على هذه الشهادة، لن أزعل أو أبكي"، لأنه اختارها.. هو اختار الشهادة وهذه الطريقة. وأنا فخورة بمحمود وأرفع رأسي به عاليا، وادعوا كل أم فلسطينية لتربية ابنها على درب ونهج محمود، ورسالتي التي أوجهها إلى شارون أن محمود حي لن يموت وجرائمك لن تمر دون عقاب وشعبنا سيتمسك بعهد وراية محمود ولن نركع ما دام فينا طفل يرضع.

أسطورة طوالبة
لم يصدّق الأهالي نبأ استشهاد القائد محمود طوالبة، بل بقيت حكاية استشهاده، تُطرح حولها الأسئلة، وبقيت الناس تردد اسمه، وتخفق القلوب به، وترفض العقول كل الحكايات المتداولة التي تتحدّث عن استشهاده، فالناس قد عشقت هذا الإنسان لبطولاته، وسيرته العطرة بينهم، ولتضحيته التي قرن فيها القول بالعمل، فهو لم يرسل الاستشهاديين فقط بل أرسل أخاه لتنفيذ عملية استشهادية في حيفا إلا أن الله شاء أن تعتقل سلطات العدو أخاه الشهيد الحي.
يقول والد محمود طوالبة: بأن الدكتور رمضان شلح تحدث معاه عبر الهاتف، وقال له: "يا محمود انسحب.. المعركة كر وفر، فرد عليه محمود قائلا: "المعركة عندي كر ما فيها فر، أنا بدي أفر من اليهودي اللي أنا كنت أوديله ناس يفجروا حالهم فيه) ؟!.
وبعد نفاذ الذخيرة من مقاتلين المقاومة الفلسطينية بعد 10 أيام من بدء المعركة، قام جنود الاحتلال بمحاصرة المقاومين، وتم اعتقال بعضهم، واستشهد الآخرون.

من مقولات الجنرال محمود طوالبة

  • بحمد الله تمكن مقاتلينا من كافة التنظيمات والقوى الذين اتحدوا تحت اسم المقاومة الوطنية والإسلامية من توحيد قدراتهم وحشدها وابتداع مفاجئات كثيرة للصهاينة, وفي مقدمتها العبوات التي أعطبت عدة دبابات, وهو ما أكده شهود عيان داخل المخيم فقد أوقفت العبوات تقدم الدبابات وإصابتها بشكل مباشر.
  • كان طوالبة في المعركة يخطط لزرع عبوة متفجرة تزن 70 كيلو غرام في طريق دبابة من نوع ميركافا كانت في المنطقة، فقال له أحد المقاتلين:(لماذا لا نستهدف الجرافة؟!)ØŒ فقال له محمود:(لا سنزرعها للميركافا لان فيها عدد أكبر من الجنود، كما أن تدمير دبابة ميركافا قد يلغي عقود بيعها لدول مثل تركيا واليابان مما يعود بالضرر على الكيان الصهيوني).

بناء مسجد باسم الشهيد محمود طوالبة
قامت جمعية الإحسان الخيرية فرع جنين بالمشاركة مع الهيئة الخيرية لإغاثة الشعب الفلسطيني عام 2005 بتشييد مشروع بناء مسجد باسم الشهيد محمود طوالبة.

(المصدر: مهجة القدس، 3/4/2013)