قصة أول طفل وُلِدَ من "النطف المهربة" من سجون الاحتلال

"وضعتُ أمامه طفله الرضيع مهند، الذي لم يتجاوز من عمره شهرًا وقتها، وعدتُ إلى مكاني، في غرفة أهالي الأسرى أنظر إليه، كان زوجي عمار يحدق إلى طفله مذهولًا وكأنه يرى "معجزة ما"، الصمتُ يسيطر على المكان الذي يموج عادة بأصوات أهالي الأسرى.
طرقتُ الحاجز الزجاجي بيننا، وقلتُ له: "ما بكَ تحدقُ به؟، احمله بين يديك"، بيدين مرتجفتين حمل مهند وتأمله، بدأت الدموع تغرق خديه، وكان الأسرى يحيطون به والصمت يلفهم جميعًا، قبل أن تنتقل عدوى البكاء إليهم أيضًا، بدءوا بعدها بالتكبير جميعًا، وهم يحملونه واحدًا تلو الآخر، كانوا ثلاثة عشر أسيرًا، وغَمَرَ ضياء الشمس المكان.
لقد كان مهند بارقة الأمل في أن يكونوا آباء ذات يوم، فمن بين قضبان السجن وعتماته خرج في صورته الأولى نطفة وعاد إليه يومها رضيعًا".

ألفان وستمائة عام
تعود بداية الأحداث إلى عام 1998م، إذ اعتقلتْ قوات الاحتلال عمار الزبن زوج دلال الربايعة، خلال عودته من سفره إلى الأردن، كانتْ دلال وقتها في العشرين من عمرها، أمًّا لطفلة واحدة هي بشائر، وحاملًا في الشهر السادس بابنتها الأخرى بيسان.
تقول دلال: "بقينا وقتها 4 أيام لا نعلم ماذا حدث لعمار، قبل أن نعلم باعتقال قوات الاحتلال له من اتصال محامٍ من فلسطينيي الداخل، بقينا بعدها 3 أشهر ممنوعين من زيارته، لا نعلم أية أخبار عنه، حوكم لاحقًا بسبب انتمائه إلى المقاومة، وحُكِمَ عليه بالسجن 27 مؤبدًا و 25 سنة، أي ما يوازي بمجموعه الكلي 2698 عامًا".
خلال السنوات الأولى من سجنه استشهد أخوه بشار، ورُحِّل أخوه محمد الذي كان أسيرًا إلى خارج الضفة الغربية، بعد انقضاء مدة حكمه، هكذا لم يبق من الذكور في أسرته سوى والده العجوز الذي توفي لاحقًا، بقيت زوجته ممنوعة من رؤيته سبع سنوات كاملة، بذريعة أن ذلك لـ"أسباب أمنية"، إلى أن أتيحتْ لها الفرصة لزيارته مع ابنتيها عام 2005م لأول مرة.
وتضيف دلال: "بعد وفاة والدة عمار عام 2004م كنتُ أرسلُ بشائر وبيسان لزيارة والدهما مع المعارف في البداية، ثم أصبح الاحتلال يسمح لي بالزيارة حسب مزاجه: مرة كل عامين، أو ثلاثة، وأحيانًا كل عامٍ واحد".
تتابعت السنوات سريعًا، كانت حياة خالية من الفرح في ظل غياب زوجها عمار، الأيام تمر بلا حساب، ما الفرق بين السبت والأحد والاثنين وبقية أيام الأسبوع مادام الفرح غائبًا عن المنزل؟، ابنتاها كبرتا دون أن تتمتعا برؤية أبيهما، إلا وهو وراء القضبان، محاطًا بالحراس، لم يكن يستطيع أن يراهما سوى خمسٍ وأربعين دقيقة، كل أسبوعين، في أحسن الأحوال.
وتقول بشائر: "في الأعياد والمناسبات التي يفترض أن نفرح فيها لم يكن الفرح يدخل بيتنا، حتى الزوار القليلون خلال تلك المناسبات لم يستطيعوا إزاحة هذا الجو الكئيب من منزلنا، كنتُ أتمنى أن يكون والدي بيننا، أن يلعب معنا ويأخذنا إلى المدرسة، ونستمتع معًا بالنزهات خلال الإجازات، مثل بقية الأطفال، لم يحدث هذا الأمر قط".

المنعطف
شَكَّلَ عام 2006م منعطفًا مهمًّا في حياة دلال وأسرتها: اقترح عليها زوجها أن تقوم بتجربة "حمل من النطف المهربة"، فكرت جيدًا، ناقشت أفراد أسرتها، وأسرته ومعارفها وجيرانها بالفكرة، فتفاجأت بتشجيع كبير منهم.
تقول دلال: "مع ذلك بقيتُ مترددة سنوات، لم أستطع استيعاب فكرة أن أنجب، ولا يزال زوجي في السجن منذ سنوات طويلة، كيف يمكن للمجتمع أن يستوعب هذا الأمر؟!، بقيتُ حائرة، دون القيام بأية خطوة، إلى أن ذهبتُ إلى مرجعة طبيب في مستشفى متخصص بعمليات الإخصاب وأطفال الأنابيب في نابلس عام 2011م".
لم تنس دلال تلك اللحظة قط: قام بالفحوصات اللازمة للتحقق من إمكانية قدرتها على الحمل بتقنية الإخصاب، قبل أن يقول لها الطبيب بلهجة قطعية: "قد تستطيعين أن تكوني أمًّا، لو حصلنا على نطف زوجكِ بعد تهريبها من السجن، لكنني لا أضمن ماذا سيقول المجتمع عنكِ، لذا ينبغي أن يكون تسليم النطف بحضور شاهدين من وجهاء عائلتكِ وعائلة زوجك، مع تبليغ مختلف الأطراف بهذا الأمر، هذا الأمر قطعي ولا مفر منه".
تتابع دلال: "توجه بعض أفراد أسرتي إلى المفتين من أجل الاستفتاء في مسألة حملي بتقنية الإخصاب، فأفتوا بأن هذا الأمر "حلال"، هنا بدأ الجميع يطالبني بألا أتأخر أكثر من ذلك، وأن أتم الأمر دون تأخير".
إنه اليوم الموعود من شهر فبراير عام 2012م: كانت دلال تدخل المستشفى بعد تهريب عينة النطف أخيرًا، كان من المفترض قدوم "شاهدين" على تسليم النطف، أحدهما من وجهاء أسرة الزوج وآخر من عائلة الزوجة، إلا أن الطبيب فوجئ بقدوم 15 رجلًا من العائلتين، بخلاف النساء، ما دفع الطبيب إلى التعليق على الأمر باسمًا: "أكل هؤلاء "شهود"؟!، لقد أصبحت المناسبة كأنها عقد قران".
بعدها فحص العينة الطبيب، قبل أن يوقع الحضور ملفًّا يؤكد تسلم المستشفى العينة، تواصل أم مهند: "بعد إجراء عملية زراعة الجنين لي فوجئتُ بقدوم أهل بلدتنا كافة؛ لتهنئتي بهذه المناسبة، راحوا يتوافدون كثيرًا، ما أنهك صحتي وأدى إلى إجهاض حملي بعد 3 أشهر فقط، حاولت بعدها إجراء عملية زراعة جديدة في شهر يوليو، إلا أنني أجهض حملي للمرة الثانية؛ بسبب حزني لوفاة إحدى خالاتي التي كانت تربطني بها علاقة خاصة، في شهر نوفمبر كانت محاولتي الثالثة".

"ألا يتربى يتيمًا"
لم تخبر دلال أحدًا من أهل بلدتها بأنها حامل، على الأقل خلال الأشهر السبعة الأولى من الحمل، كانت أمها وبناتها يقمن بأعمال المنزل، ولم تكن هي تتحرك من الفراش إلا للضرورة.
تقول بشائر: "كنا قلقتين خلال تلك المدة على صحة "ماما"، فقد كانت تبدو منهكة طوال الوقت، وكنا خائفتين أن تخسر الجنين للمرة الثالثة، كنت وقتها وأختي بيسان نحاول رعايتها قدر الإمكان، وكنا نعد الساعات، لا الأيام أو الأسابيع، منتظرتين أن يأتي "أخونا الصغير"؛ كي ينير عالمنا، كانت متعتنا في ذلك الوقت أن نلصق آذاننا ببطن "ماما" المنتفخ لننصت إلى حركاته".
إنه الثالث عشر من أغسطس من عام 2013م، كانت دلال تستعد إلى استقبال مولودها الثالث، بعملية قيصرية هذه المرة: "هل تصدق _يا أخي_ أن حارتي بأكملها لم تنم ليلة ميلاد مهند؟!، لقد مكثوا ينتظرون بلهفة خبر قدوم مهند إلى هذه الدنيا، جهزت إحدى أخوات عمار كل شيء يحتاج له الصبي: غرفته وملابسه وألعابه، لم أكن أتواصل أنا وعمار إلا من طريق المحامي، الذي أبلغه بموعد عملية الإنجاب، وأنها ستكون قيصرية".
عند وصولها إلى المستشفى، في الثامنة صباحًا من ذلك اليوم، فوجئت بـ"تظاهرة" غير مسبوقة، كان أهل بلدتها ميسلون وأهل بلدة زوجها، فضلًا عن المئات من المواطنين من نابلس وخارجها، إضافة إلى عشرات الصحفيين؛ احتشدوا أمام بوابة المستشفى التخصصي الذي سيشهد ميلاد أول طفل لأسير فلسطيني من النطف المهربة من سجون الاحتلال.
دخلت دلال إلى غرفة العمليات، كانت أعصابها مشدودة إلى أبعد حد: "طلبتُ من الأطباء تخديري موضعيًّا؛ كي أتمكن من رؤية ولدي ساعة خروجه إلى الدنيا؛ لأتحقق أن صحته جيدة وأسمع صوته، بعد دقائق لا أدري عددها سمعتُ صوت بكاء مهند الحار، ثم أروني إياه، كانت صحته جيدة، لم أكن قادرة على حمله أو على الحركة بتاتًا بفعل المخدر، لم يكن يتحرك سوى رأسي فقط جزئيًّا، لم أكف بعدها عن ترديد عبارة واحدة فحسب: الحمد لله".
أما ابنتها بيسان فتقول: "كانت المرة الأولى التي نشعر فيها بفرحة حقيقية، إذ دخلت في قاموس حياتي كلمة جديدة هي "أخي"، سألني الصحفيون يومها عن شعوري فقلتُ: أنا سعيدة؛ فاليوم رجع إلى بيتنا جزء من أبي، وأتمنى ألا يتربى مثلي طفلًا وحيدًا يشعر باليتم، وأبوه على قيد الحياة".
في تلك اللحظات كان عمار قلقًا يدور في زنزانته وهو يحمل في يده جهاز المذياع، متنقلًا بين محطاته للبحث عن خبرٍ يطمئنه، عند الساعة الحادية عشرة سمع الخبر من إذاعة القرآن الكريم بنابلس، سقط المذياع من يده، سجد شكرًا لله، ثم نهض والأسرى يعانقونه فرحين.
قال لها لاحقًا: "قدوم مهند كان أكبر انتصار لنا على سجانينا، إنه يعني أن حياتنا لن تتوقف، لقد خرجنا من القبور وصرنا أحياء، سنستمر في الإنجاب، ولن تتجمد حياتنا، وعندما نخرج سنجد أطفالنا قد كبروا وهم ينتظرون خروجنا، هنالك معركة نناضل من أجلها الآن".
بعد ولادة مهند بشهر واحد حدثت معجزة، سمحوا لزوجته بزيارته بعد مدة طويلة من المنع: "ذلك اليوم من شهر أكتوبر لا يُنسى، دخلتُ السجن لزيارة زوجي عمار، الذي لم أرهُ منذ خمس سنوات، وقد حملتُ بين يدي ولده مهند، كانت مفارقة غريبة، جاءت معي ابنتاي بشائر وبيسان اللتان كانتا في السادسة عشرة والرابعة عشرة إلى سجن (هداريم)، حيث كان عمار مسجونًا في ذلك الوقت، تأخر يومها إدخال الأسرى إلى حجرة الزيارة مدة 20 دقيقة كاملة، ثم رأيته يدخل مع زملائه إلى الغرفة المخصصة للزيارة".

"الأمل الجديد" للأسرى
في غرفة الزيارة وقتها كانت عيون الجميع تتأمل برهبة وفرح واضحين الأغطية الملفوفة التي احتوت بين تلافيفها جسد "الرضيع المعجزة"، بعد مشادة حامية مع السجانين سمحوا له بحمل ابنه، الذي تتابع على حمله أيضًا بقية من حضر من الأسرى، وقد حملوه جميعًا بأيدٍ مرتجفة، محركًا فيهم مشاعر الأبوة الجيَّاشة، لقد كان ذلك الرضيع يعني لهم "الأمل" بأن يكونوا آباء هم كذلك، رأت دلال في ذلك اليوم عمار بصورة لم تره فيها من قبل: كان يضحك ويبكي في الوقت نفسه.
بعدها بدأ إقبال غير مسبوقٍ من قبل زوجات الأسرى على زراعة الأجنة من النطف المهربة، ليتتابع قدوم أطفال قد ينتظرون طويلًا حتى يحظوا برؤية آبائهم والتمتع بقربهم.
في نهاية مقابلتي معها، سألتُ "دلال": "بعد هذه التجربة، هل أنتِ على استعدادٍ إلى تكرارها؟"،
عكس لي صوتها القادم عبر الهاتف شعورًا بالسرور وهي تقول: "أنا الآن حاملٌ في الشهر الثالث، لقد أردتُ أنا وعمار أن يكون هنالك "أخ" لمهند، وذلك من العينة نفسها المحفوظة بالمستشفى التخصصي، إن انتصارنا هنا هو ألا نسمح لأعدائنا بأن يحققوا أهدافهم و"يقتلونا" بالحزن، علينا أن نستمر في مواصلة الحياة قدر الإمكان بشكل طبيعي، وكل ما آمله الآن أن يخرج عمار ليحيا معنا مجددًا، بعد أكثر من 17 عامًا من الغياب".

(المصدر: صحيفة فلسطين 26/4/2014)