حنين ..وجعُ القهر وشوقُ الحياة

بقلم/ عبد الله الشاعر
عينان تصرخان من الوجع، وبؤسٌ يذهب بكل الملامح، وطفولةٌ محرومة، وأبوّةٌ مؤجّلة, وقصةٌ مجبولةٌ بالقيد والغربة والذكريات.
في شفتيها قصةٌ تنتظر اكتمال حروفها ،،ومازال الحزنُ يَغْرِفُ من عينيها كلماتِه الموجعة ،،، يحكي لنا قصة ثلاثة عقودٍ حَمَلت والدها من سجنٍ إلى سجن ،ومن تضييقٍ، إلى ملاحقةٍ، إلى اختفاء.
ثلاثة عقود وأبوها يمشي على الصفيح السياسي  الساخن حافيا... تتقاذفه غياهب السجون ØŒ وتلقي بجسده الهزيل في زنزانة معتمة، أو خيمة لا تقي حرا ولا بردا.
طفح بنا الكيل ، ولم يبق في العينين دمعٌ للبكاء ... تصرخ هذه الصغيرة وبالكاد نسمع صوتها... لاشيء تبقّى في وجنتيها اللتين ملأهما الهم قبلاتٍ من جراح، وحفر الدمع في ربوعهما أخاديد من عذاب ، غير سؤالات المرارة والألم .
قبل اكتمال حروفها وفي مرحلة التهجّي تصوغ كلماتها أعمق قصة لطفلة تفتّشُ في ركام الموت عن الحياة ...عن أبيها الذي بالكاد تحفظ ملامحه، ولم تتذكره سوى جَبَلٍ  أشمّ كانت تنام على صدره هرباً من صوت الريح، ونباح الكلاب, وهدير الطائرات.
لا تحفظ ملامحه، لكن أوجاعها تدلُّها عليه، فقد كانت بضعة شهور من العمر قبل أن يختطفه المجرمون، وصارت بضعةَ عقودٍ من الهمّ واللوعة والجوع لحنينٍ منذ ابتلعته السجون.
أريد أبي يا ناس ،،، تقولها بدموعها... بعينيها الذابلتين.. بصوتها المخنوق... بشفتيها اللتين ترتجفان... وبحزنها البليغ, وبطفولتها التي سرقها الطغاة، وألقوا بعمرها الغضّ بين أنياب الوحوش.
ما بين صوتها المخنوق، وصمتها الذي يفيض وجعاً وحزنا، كانت تُرخي للشمس جدائلَها... وعيناها تحدقان في اللاشيء، وتغرقان في الخشوع.
هل في العينين فائضٌ من الحزن والبراءة, أم هو الألم الذي لاينضب، وقصة الجراح التي لا تنتهي؟!
في الطفولة تُكمل المأساة فصولها، أوجاعها.. دموعها والأسى، وتصير الطفولة قطعةً من العذاب والغربة والحنين القاتل.
أريد أبي حياً، تصرخ حنين من لهفة الشوق ، والوجع لم يترك لها فسحةً للتفريق بين السجن والموت ، أو ربما لأنها بفطرتها أدركت أنْ لا فرق بين الموت والسجن ، فكلاهما بُعدٌ ورحيل ، وكلاهما حزينٌ حدّ الخرافة.
لن تترك لها الأقدار غير صورة بحجم جسدها الصغير تضمّها وكأنها تضمّ أباها... فالصورة تحكي كل شيء... وتصير في الزمن الفلسطيني جسداً يفتش عن حياة ، وأبوّةً تصارع القيد بحثا عن اكتمالها.
لكن أبي جائعٌ يا ناس,,, تقول هذا بصمتها وأكثر,, وعلى وقع الهتاف الجماهيري الذي تسمعه تصوغ (حنين ) هديلها بصمتٍ وحزنٍ وكبرياء.
ما أعظم الكبرياء في أعين الأطفال,, وما أبلغ الحزن الذي يُلقي بجراحه على شواطئ القلب البريء والجسد الطريّ.
تقف أمام الكاميرات كدميةٍ حائرة، ويقف الصحفيون قُبالتها لاقتناص المشهد الذي يفيض وجعا ,,, كلاهما يحاصره الصمت والذهول,,, وكلاهما يُؤرّخُ للمأساة على طريقته.
لشريف محيي الدين طحاينة الذي تطارده الأساطير والخرافات والهوس الأمني,,لآلاف الأسرى الذين ما فتئ الملف السريّ يُصادر حرياّتهم ،ويلقي بهم في غيابةِ القهر والحرمان.
أريد أبي, تصرخ حنين ومعها آلاف الأطفال المحرومين...
أبي، إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فارجع إلينا إننا على وجعٍ مُنتظرون.
أبي مشتاقون.. مشتاقون.. مشتاقون.. وحتى ينقطع النفسُ إننا مشتاقون.
* حنين :هي ابنة الأسير المجاهد شريف طحاينة، أقدم أسير إداري من محافظة جنين.

(المصدر: صحيفة الاستقلال، 30/05/2014)