الطفلة الأسيرة ملاك الخطيب... أُبصر فيِك الفاتحة

بقلم عيسى قراقع
رئيس هيئة شؤون الاسرى

اعتقلت سلطات الاحتلال الصهيوني، الطفلة الفلسطينية ملاك الخطيب 14 عاماً، وحكمت عليها بالسجن لمدة شهرين، وغرامة مالية قدرها (1500$)، وياني ذلك في سياق تحطيم الحصانة عن اطفال فلسطين واستمرار حملات الاعتقال الجماعية والواسعة التي طالت المئات من القاصرين، وضمن منهجية رسمية تستهدف تدمير الاجيال الفلسطينية ومستقبلهم وتدمير المجتمع الفلسطيني.
اعتقال الطفلة ملاك يفتح ملف الاسرى الاطفال الذين بلغت حالات الاعتقال في صفوفهم منذ عام 2000 اكثر من عشرة آلاف حالة، ويسلط الضوء على تنصل دولة الاحتلال كسلطة محتلة من التزاماتها القانونية والانسانية التي نصت عليها المواثيق الدولية في التعامل مع الاطفال الاسرى.
هي اصغر طفلة تقبع داخل السجون في العالم، تستفز الاباء والامهات والمسؤولين والقانون الدولي، وتستفز العدالة الانسانية العاجزة عن اطلاق سراح طفلة تشتاق ان تظل طفلة ولا تكبر بين القضبان والجدران...
هي الشاهد على الممارسات والانتهاكات الخطيرة التي يتعرض لها الاطفال منذ لحظة اعتقالهم، من ضرب وتنكيل وتعذيب واهانات وتخويف وتهديد وانتزاع اعترافات منهم بالقوة، وهي شاهد على دولة تخشى الطفولة الفلسطينية وهي ترسم عذاباتها ومعاناتها على فضاء الحياة القادمة...
الطفلة ملاك الخطيب العائدة من المدرسة بمريولها المدرسي الاخضر وجديلتها الصغيرة، هاجمها الجنود وكبلوها وضربوها، مزقوا حقيبتها والعابها، عصبوا عينيها لإطفاء النشيد والبراءة في قلبها، واسكتوا دمها وهو يلقي الحجارة في وجه المستوطنين والجدار والحاقدين على الارض والشجر.
ملاك الخطيب الصغيرة، يدان مقيدتان بالحديد، تنام وحدها، تبكي وحدها، كل شيء حولها ظلام وفراغ، لا ام ولا اب ولا صوت لجرس المدرسة، كل ما حولها فولاذ وبنادق وحراس ودبابات وزنازين، تسالني: هل عالمهم كله معسكر وليس عندهم اولاد او بنات؟.
هم الاطفال الاسرى، المخطوفون بعد منتصف الليل، المحروقون أحياءً في شوارع القدس، المدعوسون ببساطير الجنود والمضروبون بأعقاب البنادق، المشبوحون والمعلقون في مراكز التحقيق في الجلمة والمسكوبية وعوفر وعتصيون، المطفأة اعقاب السجائر في جلودهم، الصارخون من التعذيب والصعقات الكهربائية، العراة المحرومين من النوم والدفء واليقظة.
هم الاطفال الاسرى اشقاء واخوات ملاك، لا عشب اخضر او اصفر في ارض "إسرائيل" الكبرى، كل الجهات بوليسية، والذي تسمعه هو طفل خلف الجدار يسال عن امه بعد المساء...
في غرفة التحقيق ابلغني الضابط انني قنبلة موقوتة، وان دولة اسرائيل ترى في اطفال فلسطين خطراً على امنها ووجودها، لا تعترف باتفاقية حقوق الطفل ولا بالورد، لا تكترث لسؤال الضحية.
هذه ليست ذكريات تقول ملاك، انها صور شاهدتها، تتحرك وتفصح عما يجري هناك في اقبية التوقيف وظلمات السجون: اطفال تعرضوا لوخز الابر في الرقبة والراس خلال استجوابهم، اطفال رشت الغازات في اعينهم وهم مكبلين، اطفال جروا طويلا على الارض، اخرون رفسوا بالأقدام وبصق الجنود في وجوههم وشتموا بألفاظ نابية، اطفال استخدموا دروعاً بشرية خلال الاعتقالات... هذه ليست خيالات، انها حرب صامتة على اجساد اطفال تخطوا تاريخ الميلاد...
ملاك  الخطيب، الطفلة الاسيرة، المربوطة والجوعانة والعطشانة، الخائفة، جسدها مدمى بالركلات والضربات، لا تعرف اين هي ولماذا هنا، تسمع سخريات وضحكات الجنود والمجندات من حولها، يلتقطون الصور، يشدون الكلبشات على ايديها وينشدون لارض الميعاد...
ملاك الخطيب تحلم وتغفو قليلاً، ترى قارباً يتحول في وسادتها الى موجة تتعارك فيها صور مبهمات لسجانين لا يفقهون سوى انتهاك النوم والوقت..
ملاك الخطيب، تحلم، وترى امها تسير في الشارع تناديها، الوقت ظهيرة، والساعة الآن خالية من ملاك وخطواتها العائدات الى البيت.
ملاك في السجن، هنا نساء اجمل بنات العالم، اكثرهن انتظاراً وازدحاماً وانشغالاً، قاصرات وامهات وزوجات، الحنين والتراب والضوء والجمال الكامل المتكامل الكلي في ابد المستحيل، قمم بعيدة، رائحة تستعيد البعيد قريبه، ومن له ام له اسم وارض وهوية، ومن له ام يستطيع العودة من الظلام الى نور الحرية، تقول لينا جربوني وهي ترفع منديلها في السماء.
اليوم الثلاثاء: اثدءا امهات يرضعن ابناءهن الغائبين بالحنين والاغاني ويسهرن حتى مطلع الفجر.
اليوم الاربعاء: جروح نازفة تسيل من قدمي الاسيرة امل طقاطقة التي اصيبت بالرصاص، عادت من الموت الى الحياة.
اليوم الخميس: اسيرات ازواجهن بالسجن، لا لقاء ولا كلام ولا رسائل حب، ويبقى تحت الاسمنت والفولاذ نار تعرفها السجانة عندما يشتعل العشب والرغبات...
اليوم الجمعة: تلتحم الاسماء بالأجسام في الصلاة، يغلقون اسوار القدس ويتسنفرون ويلاحقون الآيات،.
اليوم السبت: ينفتح النهار، عدد الاسيرات يزداد، جئن من الخليل والقدس، مرهقات متعبات ومضروبات، لا اغطية شتوية كافية سوى هذا الهواء المبلل بالدمع وبالبرد...
اليوم الاحد: تنزل الراهبات الى الساحة، ينعفن الورد والنور ويختبئن تحت الصليب، الحارس فوق البرج  اطلق الرصاص على الصدر والنحر والخاصرة.
اليوم الاثنين: تقاد الاسيرة في سيارة البوسطة الى محكمة عوفر العسكرية، ثماني ساعات شاقة، مكبلة على كرسي حديدي، محشورة في خزان مغلق ذو رائحة نتنة، تعود في الليل منهكة وفزعة من مشهد ذلك القاضي، وقد جلس فوق دبابة في قاعة المحكمة.

ملاك الخطيب:
أُبصر فيك الفاتحة
الفراشة والحقول الواضحة
تعالي يا ابنتي
خذي يدي طليقة
تنتصب ذاكرتي
واحلامي الجامحة...