"إياد الجدي".. زُفَّ بـ"عرس صامت"

الأب "القائد" قبل لحظات الوداع الأخيرة

"علمني رحيلك يا أبي أن القلوب لها ذنوب! أن الذين تغيبهم الحياة كانوا يجرون خطوات الوداع إلينا دون أن ندري، أيها الراحل، صعب أن نقع وأرواحنا تحت وطأة ذكرى وحلم؛ ورحيل خاطف بلمح البصر، لتبقى الذكرى فقط دون رائحة، دون دفء، ودون يدك الحانية". قبل خروجه بقليل يترك إياد الجدي (42 عامًا) ما جال بباله لدى ابنته نورا "19 عاما": "نفسي بطبق سردين من تحت يديك"، تعهدت الابنة لوالدها: "خلص بكرا بعملك اياها"، في الأثناء يقترب أذان العشاء من مغادرة المأذنة للصلاة، داعب الأب ابنه الرضيع بلال (عام)، وغادرهم بابتسامته المعتادة، متعهدا بعودة قريبة: "ساعتين وراجع". نورا التي عاشت آخر لحظات والدها، عاشت إرهاصات ذلك، تمالكت نفسها؛ تحشرج صوتها بانكسار ممزوج بالألم، ودموع لا تملك مقدرة على وقفها: "لما جاء البيت، قبل خروجه بلحظات، نظرت إلى وجهه". سكت صوتها ثم عاد مرة اخرى: " حدقت النظر فكان الوجه غريبًا، رأيته متوترًا على غير العادة، فقال لي: "بدي أطلع علي شغل (هذه علامة تعرفهم أنه ذاهب إلى المقاومة)".

آخر اللحظات بعد دقائق، يوشك عقرب الساعة الوصول على حافة الرقم عشرة ما إن أرخى الليل ستاره الأسود، تجلس نورا مع اخوتها وأمها على سرير والدها، صوت انفجار قريب، يتناهى إلى مسامعها، حبست أنفاسها، اهتز قلبها ورجت دقاته. نورا تصفحت الهاتف المحمول، تقلب في صفحات الأخبار على وجه السرعة، "ما أطنيش هو" .. تتساقط تلك الاحتمالات من مخيلتها، أو بالأحرى تهرب منها، لم تلقي بالا لما كتبته احدى الصفحات باسم أحد الشهداء "إياد" دون أن تتعرف على اسم العائلة، تجاهلت ذلك أيضًا، حتى أعلن عن اسمه كاملًا، فصرخت، وانفجرت بكاءً. "حتى الآن حاسي حالي في حلم .. بحكي يمكن أبويا يرجعلي" ما زالت تعيش الصدمة: "كانت والدتي تقف في الخارج، تنتظر رد عمي الذي ذهب للأرض ليتأكد من الحدث، لكني صرخت فهرولت أمي نحوي تسألني عما حدث". تستذكر: " لم أخفي الأمر عنها: "أبويا استشهد يما" .. وارتميت في حضنها أواسي نفسي وتواسيني". لم تستعد نورا وأخوتها الخمسة لفراق والدها بهذا الشكل؛ "هو السند .. بل هو الحياة" هكذا تصفه، لم تتخيل أن تفقد وجهه البشوش أن تأفل إشراقته عليها كل يوم، أن تغادر ضحكته، وتذهب إلى مستقر الذاكرة، ماذا ستخبر الرضيع بلال Ùˆ"الذي أحبه والده كأنه لم ينجب طفلا قبله" وهو يتأمل صور والده ويشير إليه ويبكي دموعًا لا تتوقف، فلو باستطاعته النطق لقال: "أعيدوا إلي إياد". هنا؛ تقف الدموع حاجزا أمام صوت والدته كلما حاولت الكلام، غلبتها تلك الدموع التي لم تجف منذ ثلاثة أيام، تجرعت الصمت قليلا، وتمالكت نفسها شيئا ما إلا أن الدموع كانت تقف على حافة عينها، تذكرت آخر لحظات معها مع نجلها: "رأيته قبل الخروج من المنزل، وأخبرني أنه ذاهب للعمل، فطلبت منه أن يحل أمرا عائليا خاصا، فوعدني أنه بالغد سيفعل ذلك". " ثم ذهبت وجلست مع زوجي نتناول بعض الفاكهة، قبل أن يفزعني صوت الانفجار .. نزلنا أسفل المنزل، قالوا أن الشهيد ابني محمود، لكني – ورغم أني لم أكن معهم – قلت إن الشهيد إياد، فصدق حدس قلبي بعد لحظات وجاء الخبر اليقين باستشهاده".. أكملت المشهد. غلبتها الدموع مرة أخرى: "الله يرحمه ويسهل عليه، لحق باخوه الشهيد نضال" وغاب صوتها بين آهات حزنها.

أمنية الأب: "الحمد لله هدا اشي بشرف، مين بكره نعمة الشهادة، ونحن كعائلة مشروع شهادة" .. تخرج تلك الكلمات الصابرة هذه المرة من والده جمال الجدي. يشير والده الى سيرة نجله في درب المقاومة: "بدأ العمل المقاوم في منتصف التسعينيات، وأمضى عمرا طويلا في ذلك، وتعرض لمحاولات اغتيال". "أتدري؟؛" يعترف والده: "لأني طرقت السبعين عاما، اشتريت قطعة أرض في منطقة "تل الهوا" وصرت أذهب إليها لأمضي جل وقتي هناك، وتركت شؤون البيت وإخوته إلى إياد، والآن رحل وترك لنا الحسرة على فراقه". شيعت الشجاعية الشهيد إياد الجدي ورفاقه الشهداء الثلاثة، حملوا على الاكتاف – رغم الإجراءات الاحترازية لفيروس "كورونا"ØŒ فكانوا "أهل أصالة ونخوة وقدموا الواجب وزيادة" .. يقول والده: "ابني كان شخصا حكيما، يسامح حتى من اعتدى عليه، لا اعتبره ابنا بل زميلا لي، كنت أخجل منه من شدة تواضعه (...) تمنيت الشهادة إلا أنها جاءت لأبنائي".

المصدر (صحيفة فلسطين أون لاين 29/08/2020)