الشهيد معتز المبيض.. مواقف لن تنساها زوجته آلاء

في صبيحة ذلك اليوم وفي أثناء استعداده للذهاب إلى عمله، سألته السؤال المعتاد لكل ربات البيوت عمَّ يريد أن أعد له طعامًا لوجبة الغداء، فأجابني إجابة جعلتني أصمت أمامها وأفكر فيما إذا كان من وراء كلامه رسالة غامضة يريد إيصالها، وقال لي: "زهقت كل أكل الدنيا، نفسي ترنو لأكل لم اتذوقه يومًا في حياتي"، فسرحت وشرد ذهني قليلًا لأسأله ثانية: "أعد لك المشاوي، فلم يجب، ثم قال لي: "اعملي اشي في اللحمة الموجودة في الثلاجة فلا نعلم إذا كنا سنعيش لبكرة ولا لأ". لم يهن على قلب آلاء زوجة الشهيد معتز المبيض الحال الذي رأت به زوجها، فكانت تعتقد أنه مصاب بحالة ملل لتعده بعزومة يوم الثلاثاء في أحد المطاعم، وليسكتها صوت بكائها قليلًا على سماعة الهاتف لتقول: "ما النا نصيب استشهد معتز". في اتصال هاتفي لصحيفة "فلسطين" مع عائلة الشهيد، تلامس وتنقل حياة ذلك الإنسان ومواقفه وذكرياته معهم، حيث كان الصمت لديهم أبلغ من الكلام، كيف وهو الآن "في ضيافة الرحمن". "كل الحروف والكلمات لا تفي حقه، فلو تحدثت عنه سأظلمه، فعمَّ سأتكلم؟ عن حنيته أم طيبة قلبه، فلم أرَ في حياتي مثل قلبه الذي لم يحمل على مخلوق مثقال ذرة فيه حتى لو كان ظالمًا له، ويقابله بالمسامحة، فكنت استفز من ذلك واسأله دائمًا كيف بتقدر تسامح بهذه السرعة؟ ليجيبني: "الأمر ليس بيدي، فقلبي يملكه خالقي"؛ تقول آلاء. أما شخصيته فكانت "صامتة" كصندوق لا يمكن لأحد فتحه، ورغم مرور أربعة أعوام على زواجنا إلا أنه لم يعطني مفتاحه خوفًا عليّ من أن يحملني فوق طاقتي ويزيد من مخاوفي عليه، ولكني كنت أفهم بعض ما يقوم به من وصاياه التي لم يترك موقفًا إلا وسردها على مسامعي وعنوانها والدته وأبناؤنا. معتز الذي كان يرفض أن يسمح لجفنه أن ينام دون أن يصالحني ويزيل الخلافات بيننا حتى لو كنت أنا المخطئة، وبصوت باكٍ وصلنا عبر سامعة الهاتف "من سيمسح لي دموعي بعد استشهاده؟ من سيتحمل أخطائي؟ من سيقوي إيماني ويذكرني بعباداتي وصلواتي؟" لا أنسى اليوم الأول لذلك الميثاق الغليظ، وجدت صورة مخالفة للمخطوبين الذين يبدؤون حياتهم بكلمات الحب والغرام، فقد استهلها معتز معي بحديثه عن الزوجة الصالحة التي تصون زوجها وأهله وبيتها، وفي ليلة زفافنا بعد أن سقاني اللبن سنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أعاد وصاياه وحديثه عن الزوجة الصابرة. ومن جمال تلك الأيام بينهما فقد ذكرته بها قبل أيام من استشهاده ليعيد سرد الذكريات بوجه باسم وضاحك. وفي يوم الأحد الذي سبق يوم استشهاده قال لي وأوجعني بأنه "تكاسل عن الجهاد بسببي"، "سأعود إلى همتي من جديد لأحقق غايتي بالشهادة، رغم أنه لا يهون عليّ أن أتركك"، وقبل خروجه من باب البيت كنت أستودعه وديعة عند الله أن يحفظه ويرده إلي ولأبنائه سالمًا غانمًا، وإذا أراد أن يأخذه شهيدًا أن أكون معه. معتز لديه طفلان لم يعيا بعد معنى الأبوة، وغير آبهين بما يدور حولهما، فالأول عبدالله ثلاثة أعوام يسأل متى عودة والده من العمل، أما عامر الذي سماه باسم والده، وعمره لم يتجاوز عاما ونصف العام، إذا سأله أحد المعزين عن والده يشير إلى الباب وكأنه ينتظر عودته. وفي حديث مع والده الذي كان على موعد مع الذهاب مع معتز لزيارة عائلية بعدما أنهيا حضور الدرس الإيماني في المسجد، وقد أجل الزيارة لبعد ساعة لظرف طارئ، وما هي إلا لحظات ليخرج من هذه الحياة. عم اتحدث معتز الخلوق أم المحبوب، أم الكتوم حافظ السر، أم صاحب المعاملة الطيبة مع القريب والبعيد؟ فصاحب المطعم الذي عمل عنده قبل توظيفه في المحكمة شهد أنه لم ير أحد بأمانته، وكان لا يرد أحدًا خائبًا، ويدفع من ماله الخاص حتى لا يزعل أحد. فكنت عندما احدثه لا يرفع نظره في وجهي احترامًا وأدبًا، فكان ذلك لا يجعلني أقول له شيئا، ويغلق علي الطريق، لم اسمعه يومًا قال لي لا أو أنه مشغول، حتى في تعامله مع والدته التي لم يرفض لها طلبًا. أصدقاؤه كثر وكانوا يتمنون أن يكونوا إخوته من شخصيته الطيبة، وابتسامته التي لا تفارق وجهه لا تسمح لأحد أن يزعل منه. معتر البالغ من العمر 29 عامًا، حصل على دبلوم إدارة وأتمتة مكاتب وحصل على وظيفة في المحكمة، واستكمل دراسته للحصول على شهادة البكالوريوس ليتمكن من التقدم لامتحان للحصول على ترقية في وظيفته، ولكن كان قدر الله نافذا، فقد استشهد يوم الاثنين الماضي في أثناء تأديته واجبه الجهادي.

المصدر (صحيفة فلسطين أون لاين 29/08/2020)