الشهيد يحيى المبيض وعائلته.. بلا وداع أخير

لكل أمِّ شهيد حقٌّ مشروعٌ في "العناق الأخير" لفلذة كبدها بعد أن استلته الأيام من بين أحضانها، إلا أنَّ ذلك لم يكن في انتظار الأربعينية "سُعاد" أم الشهيد يحيى المبيض بعدما تناثرت أشلاء جسده، فباتت النظرة الأخيرة إلى الجثمان المسجّى ضربًا من مستحيل. تكتفي والدة الشهيد بتمرير راحة يدها المرتجفة على الكفن الأبيض، وكأنّ مسحةً كهذه ستزيل عن الذاكرة "حجاب واقعها السميك" وتعينها على مرارة الشوق سنواتٍ قادمة تستعين خلالها بصوره على مواجهة حياةٍ خلت منه. يرحل يحيى عن عائلته بعد أن أطفأ شمعة عامه الـ٢٣ وهو أكبر فردٍ مسؤولٍ فيها بعد أبيه، بعدما قضى هو وثلاثةٌ من رفاقه "خلال تأديتهم الواجب الجهادي في التجهيز والإعداد"، قبل أيام، شرق حي الشجاعية. يحيى أنهى مسيرته التعليمية على مقاعد المحاماة قبل أشهر معدودة، بعدما أبى إلا أن يكون "عصاميًّا" لا يدفع رسوم جامعته إلا من عرق جبينه ويُساعد عائلته في مصروف المنزل، فعمل في ورشات البناء إلى جانب دراسته، وكان يسعى في المدة الأخيرة لتسديد آخر قسطٍ يحول بينه وبين تسلم شهادته ليباشر بعدها التدريب الميداني، إلا أن شهادة الآخرة كانت له أقرب. تسرد أم الشهيد في حديثٍ مع صحيفة "فلسطين": "قال لنا إنه ذاهبٌ لقضاء غرضٍ وسرعان ما سيأتي"، لتكون هذه تفاصيل اللقاء الأخير الذي لم يَعُد يحيى بعده. تصلي الأم صلاة العشاء فيقطع صلاتها صوت انفجارٍ، لتضعَ يدها على قلبها الذي أنذرها مسبقًا بماهية الحدث، تنزلُ راكضةً إلى الشارع سائلةً رفاقه الذين يجلس معهم دومًا ليكون ردهم بـ: "لا ندري" هو المؤكد لما توسوس لها به نفسها. "بدي أضمّه لحضني" كان هاتف يحيى يستقر على سريره في المنزل دون أن يأخذه معه، فما كان خيارًا أمام هذه الأسرة إلا أن تُبيِّت الأمل على أن يعودَ سالمًا، "اقتربت الساعةُ من الواحدة صباحًا فذهب أبوه إلى مجمع الشفاء ولم يتعرف إلى الجثمان إلا من يد يحيى التي اشتبه فيها!" تسرد أمه تفاصيل الحكاية بصوتها المبحوح من فرط البكاء. يرفضُ قلبها الملهوف إلا أن يرى الشهيد ولا يقبل رسالة تتناقلها الألسنة مفادها "يحيى استشهد"، فتطالب باحتضانه مُردّدَةً: "بدي أضمه لحضني"، لكن أمنيتها تتلاشى عندما يأتي الجثمان لا يظهر منه شيء -كما تصف-، فتكون راحةُ يدها هي وسيلة العناق الأخيرة. لا تُقامُ مراسم العزاء بسبب حظر التجوال الذي فرضته جائحة كورونا، فتتلاحق عبارات المواساة عبر الهاتف، الوسيلة الوحيدة لأداء واجب العزاء في أيامٍ كهذه. تفاصيل لا تُمحى أم الشهيد التي لا تستطيع لفظ اسمه إلا وتُلحِقُه متداركةً بـ"يحيى حبيبي" كأنها تصححُ ما سبق أن قالت، قد رفضت التحاقة بكلية "الصحافة" لدى إنهائه الثانوية العامة خوفًا عليه من مخاطرَ هذه المهنة، ذلك أنها تخاف عليه كـ"نورِ عينيها"، واقترحت عليه كلية الحقوق علّه يصبح مُحاميًا "قد الدنيا". عُرف الشهيد بروحه الاجتماعية وخفة ظله بين عائلته وأولاد جيرته، ليُلقب بـ"فاكهة العائلة" فلا تحلو جلسة إلا بنكاته ومرح أحاديثه، ولا يترك فرحًا أو عزاءً في حيِّه إلا وكان أول العاملين فيه، وكان يحيى مندوبًا في إحدى الشركات لتوزيع المساعدات على الأُسرِ المحتاجة منذ بداية أزمة "كورونا" في مراكز الحجر الصحي بغزة منذ (آذار) مارس 2020م، كما كان من الأيدي الفاعلة في توزيع الطعام والشراب في شهر رمضان. تستفيضُ أخته ضحى بالحديث حين أخذ يومًا دورها في "الخبيز" فخفف عنها عبء هذه المهمة الصعبة بعدما تجاوزت عقارب الساعة الـ12 بعد منتصف الليل: "سنفتقد حنانه وضحكاته التي تملأ علينا الحياة". تمنت أمه أن تفرَحَ له كما تحب كل أم أن تفعل، وعزمت على ذلك: "بدنا نجوزك على الصيف الجاي"، لكن شاء القدر أن يتحقق مُبتغى يحيى قبل مُبتغاها، إذ كتب عبارة مثبتة على حساب "فيس بوك" خاصته: "أوليس موتي في حياتي مرةً، فَلِمَ لا يكونُ ختامها استشهادي؟!". يرحل يحيى اليوم عن الدنيا سعيدًا بما حقق، تاركًا وراءه عائلةً تختنق بالعَبراتِ بعده، وتتلاحق أصواتُ أنفاسهم كلما جاء ذكره في منتصف الكلام، إلا أن "فريد" والد الشهيد الذي أصر على صحيفة "فلسطين" أن تزورهم بعد انحسار أزمة كورونا بدلًا من الحديث عبر خط الهاتف ختم قوله: "لا يُستشهدُ إلا من كان أهلًا لذلك، ومن لا تتوافر فيه مؤهلاتُ ذلك لا يستشهد".

المصدر (صحيفة فلسطين أون لاين 30/08/2020)