مجزرة الحرم الإبراهيمي.. "الشاهد الأزلي" على دموية الاحتلال

في يوم الخامس عشر من شهر رمضان عام 1994، ومع موعد صلاة الفجر التي كان يؤمها المصلون في مسجد الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، حيث كان الفرح والأمل يجتمعان بأفئدة عطشى دعت ربها بالمغفرة وقبول العمل، وسط حالة من الهدوء والسكون، لم تكن إلى فرصة سائحة للمتطرف الصهيوني "باروخ جولدشتاين"، والذي تمترس وراء أحد الأعمدة الجانبية للمسجد، يقتنص فرصة يشفي من خلالها غليله في المصلين.
انتظر "جولدشتاين" حتى حانت فرصته الذهبية، وأثناء سجون المصلين في ركعتهم الأولى بين يدي ربهم، فتح نيران سلاحه الرشاش ليراها بعينية تخرق رؤوس  المصلين، وأجسادهم، وتتطاير منهم لحومهم تتفجر منها الدماء كالنهر المتدفق على أرضية المسجد، فتعالت الصراخات، والأصوات المستغيثة على إثرها، وليهب من نجا منهم إلى صوب القاتل، ليرديه قتيلا بعد أن كان ملتفاً بسلاح الجريمة التي ارتكب فيها مجزرته دون أي خوف.
وبعد تنفيذ المجزرة، واستكمالًا لفصول الجريمة، اكتشف المصلون إغلاق جنود الاحتلال المتواجدين بجوار الحرم وساحاته، أبواب المسجد لمنع المصلين من الخروج، وصد القادمين من الأحياء المجاورة لإنقاذ الجرحى، وإخلاء الشهداء، حتى اندلعت على إثر ذلك مواجهات عنيفة في محيط الحرم، ليستشهد أربعة من المواطنين، ولينضموا إلى 29 من الشهداء، و 150 من الجرحى.
تواصلت الهبة الجماهيرية في المدينة ومدن الضفة الغربية وقراها المستنكرة لما جرى، واستمرت اشتباكات المواطنين مع جنود الاحتلال ومستوطنيه، الذين اشتدت في المقابل قوة بطشهم، فبلغ عدد الشهداء الذين سقطوا نتيجة المصادمات مع جنود الاحتلال إلى (60) شهيدًا، وللعمل على تهدئة الوضع عينت حكومة الاحتلال لجنة لتقصي الحقائق أطلق عليها اسم "شمغار" وقد خلصت بإشارة إلى أن الجاني اليهودي غولدشتاين "مجنون".
وكنتيجة لما جرى، وبذرائع واهية، استغلت سلطات الاحتلال الحادثة، لتقوم عنوة بإرغام الضحية لدفع الثمن، حيث أغلق الحرم أمام المصلين للصلاة فيه لأشهر طويلة، واغتصب الحرم، ليقسم إلى قسمين يسيطر اليهود فيه على القسم الأكبر، ويستخدم المستوطنون المسجد بكامله خلال أعيادهم ولا يسمح فيه برفع الأذان في الحرم أو دخول المصلين المسلمين إلا بشكل محدود.

عدد المصلين
إلى جانب ما سرد، فقد فوجئ أهل المدينة أيضا بتحديد عدد المصلين وأوقات دخولهم إلى المسجد، ووجود بوابات حديدية عملاقة، وعلى المدخل اليتيم للمسجد تم وضع بوابتين إلكترونيتين ثابتتين يتحكم بها الجنود، بالإضافة إلى وضع العديد من كاميرات المراقبة داخل المسجد وخارجه ونقاط المراقبة المنتشرة فوق أسطح المنازل.
ولم تكتف الدولة العبرية بذلك، سيطرت الأخيرة على خمسة مواقع ومبان فلسطينية تحيط بالمسجد، وحولتها إلى بؤر استيطانية، هي أبراهام أبينو، وهي سوق الحسبة المركزي، وقد أقيمت عام1984 ، ورامات يشاي وهي حي تل الرميدة، وبيت رومانو وهي مدرسة فلسطينية كانت تسمى مدرسة أسامة أقيمت عام1980 ، وبيت هداسا وكانت تسمى مدرسة بنات الدبوية وقد أقيمت عام1979 ، وهوتنيك سنتر، وكانت تسمى الاستراحة، ويقدر عدد سكانها بنحو 500 مستوطن.
ورجوعا للمجزرة؛ يقول أحد المواطنين الشهود على المجزرة: "إن كل شيء كان مدبرا للوصول إلى هذه النتيجة، حيث يؤمن كل مصلٍ حضر إلى الصلاة في ذلك اليوم أن الجيش كان متورطًا في المجزرة"، مشيرا إلى أن الجميع لاحظ أن أعداد الجنود الذين كانوا للحراسة ليلة المجزرة قلّت بشكل ملحوظ فيما كان المتطرف "غولدشتاين" يلبس بزة عسكرية.
ويضيف المواطن، محمد أبو الحلاوة وهو أحد معاقي المجزرة: "لا يمكن إعفاء الجيش من المسؤولية، عندما قام غولدشتاين بإطلاق النار على المصلين هرب المصلون باتجاه باب المسجد، حيث وجدوه مغلقًا، علما بأنه لم يغلق من قبل أثناء أداء الصلاة بتاتًا وعندما توالت أصوات المصلين بالنجدة كان الجنود يمنعون المواطنين من التوجه إلى داخل الحرم للقيام بإنقاذ المصلين".
امتلأت بيوت مدينة الخليل بالأيتام، والأرامل والثكلى، ومر عيد الفطر من غير أن يكون سعيدًا عليهم، وأيقنوا أن لا سلام مع هذا المحتل ومستوطنيه، ولاسيما أن المجزرة كانت بعد أشهر قليلة من توقيع اتفاقية أوسلو للسلام بين الرئيس الراحل ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الصهيوني في وقتها إسحاق رابين.
لاقت المجزرة رضا واسعا في صفوف دولة الاحتلال، وقال أحد الحاخمات اليهود والذي يدعى موشي ليفنغر معلقا عما إذا كان يشعر بالأسف على من قتلهم غولدشتاين: "إن مقتل العربي يؤسفني بالقدر الذي يؤسفني مقتل ذبابة"، فيما اعتبر اليهود الجاني بمثابة قديس يزار قبره، ويؤدى التحية العسكرية عنده.
وجاءت ردود الأفعال العربية والإسلامية والدولية الرسمية غاية في الضعف والخذلان، فلم تتجاوز ردود فعلهم الإدانة، مع تفاوت في لهجة الاستنكار وفي تحميل المسئولية، فقد حملت الدول العربية المسئولية كاملة لسلطات الاحتلال التي تسلح المستوطنين، وتعزز مواقعهم في مواجهة العرب العزل.
النائب في المجلس التشريعي عن مدينة الخليل، باسم الزعارير، استذكر المجزرة التي حصلت بقوله، إن ما جرى فجر يوم الخامس عشر من رمضان عام94 ، كان أمرا في منتهى"القسوة والتجبر"، وذلك في قيام المستوطن المتطرف غولدشتاين بقتل المصلين الأمنيين في الحرم الإبراهيمي.
وأضاف: "إن المجزرة وفي كل عام تطل ذكراها لتعلن عن الوجه الحقيقي للاحتلال، ونبش ذكرى مؤلمة ذهب ضحية هذا الاعتداء الآثم عدد كبير من أبناء الخليل وهم راكعون ساجدون"، مشيراً إلى أن الاحتلال كان يخطط من وراء المجزرة إلى السيطرة على مقدرات المسلمين، وهو ما جرى فعلا.
وذكر أن الاحتلال نجح بعد المجزرة في تقسيم المسجد إلى قسمين، مبيناً أن ذلك تعد صارخ على مقدسات المسلمين والتي شيدت منذ سنوات الفتح الإسلامي قبل المئات من السنين.

وأشار الزعارير إلى أن ذكرى المذبحة تمر مع تزايد الهجمات الإسرائيلية على المواطنين في مدينة الخليل بشكل خاص والضفة الغربية بشكل عام، إذ إن الاحتلال كشف عن وجهه في تأصيل الاستيطان، وبناء المزيد من الوحدات الاستيطانية الجديدة، والتعدي على المسجد الأقصى.

(المصدر: صحيفة فلسطين، 3/8/2012)