عائلة عبيد تُسدل الستار عن قصة غياب استمرت 16عاماً

رفضت والدة الشهيد، رامز عبيد أحد الذين سلمت قوات الاحتلال رفاتهم بعدما ظلت محتجزة ستة عشر عاما فيما يعرف باسم "مقابر الأرقام" مغادرة المقبرة بعدما تم دفن رفات نجلها، وجلست بجانب قبره تناديه وتتحدث معه وكأنها تجلس معه في ساعة صفا.
وأفرجت دولة الاحتلال عن "91" رفاتا لشهداء فلسطينيين قضوا خلال تنفيذهم عمليات فدائية خلال السنوات الماضية، وكانت تحتجز جثامينهم. من بينهم الشهيد رامز عبيد من خانيونس جنوب قطاع غزة، منفذ عملية "ديزنقوف" في تل أبيب، وذلك في الرابع من آذار/ مارس عام 1996.
وعلى الرغم من أن عبيد قد فجر نفسه وسط جمع لمستوطنين يهود خلال تنفيذ عمليته الفدائية، وتحول جسده لأشلاء بعد التفجير، إلا أن اللهفة بقيت تلاحق والدته الحاجة "أم حيدر" منذ ساعة وقوع العملية قبل16 عامًا لمعانقة هذه الأشلاء وتقبيلها.
ومنذ أيام، جاء خبر ورود اسم الشهيد رامز ضمن قائمة من 91 شهيدا سيفرج الاحتلال عن رفاتهم من "مقابر الأرقام" .. وهنا كانت بداية الفصل الأخير من سيناريو المعاناة والترقب الذي استمر يلاحق العائلة منذ آذار1996 ، لكنه سيناريو كان محفوفا بالخوف مخلوطا بشيء من الفرحة.

دموع الفرح والحزن
بدأت الاستعدادات على مستوى العائلة لتجهيز مكان الاستقبال، وبيت العزاء، وباتت تنهال التهاني من جهة، والتعازي من جهة أخرى، وتشابكت دمعات الفرح بدمعات الحزن، ونكأ الاحتلال من جديد جرح العائلة، الذي أضحى جرحا مضاعفا، لا سيما أن والد الشهيد رامز قد فارق الحياة منذ عام فقط أي بعد 15 عامًا من انتظار رفات ولده.
كان أكثر ما تخشاه العائلة من هذا الفصل المؤلم من تاريخها أن يحدث مكروه لوالدته فور رؤية التابوت الذي يرقد فيه الجثمان الذي عاد إلى بيته، لتشييعه إلى مثواه الأخير.
وقال فادي عبيد 30 عامًا ابن شقيق الشهيد رامز: "إننا كنا نتوقع أن يغمى على جدتي والدة رامز أو تنهار أو تفقد توازنها، خاصة وأنها تعرف بعاطفتها الجياشة، وحبها وقربها الشديد من ابنها الشهيد، إضافة إلى أنها مصابة بعدد من الأمراض التي تثقل كاهلها، وغياب الزوج عنها قبل عام".

عودة المسافر
وأضاف: "لكن الصبر الإلهي تنزل عليها في لحظة وصول الرفات، وبدت متماسكة، صابرة، أشبه بأم استقبلت ولدها المسافر، انهالت على التابوت بالعناق والقبلات، ولا تريد من أحد أن يبعدها عنه، أو يأخذ ولدها من بين أحضانها".
وتابع: "عودة الرفات بعد 16 سنة، أشعر والدة الشهيد أنه قد عاش من جديد، وبعد دفنه، أصرت الوالدة أن تبقى بالمقبرة لتخاطب رفات نجلها الذي تاقت لرؤيته والحديث معه، وأخذت تناجيه بكلمات الأم الرؤوم، المشحونة بعبارات الشوق والرضا، والدعاء بدخول الجنة، والتنعم مع الصديقين والشهداء والصالحين".
ومع هذا المشهد، كما يروي فادي، انهالت دموع كل من حضر، وعلت أصوات التكبير، وأعاد الرفات شريط ذكريات 16 عاما من الانتظار، "لكن الحمد لله، جاءت لحظة النهاية، والحمد لله اكتملت فرحتنا وأسدل الستار على هذا الفصل". حسب قوله.
ويوضح أن مشاعر العائلة والأصدقاء طيلة السنوات الماضية كان غير مواتية، متقلبة، مختلطة، "لكننا اليوم نشعر أنه كان لنا مسافر لأجل غير مسمى، وعاد فجأة، ومع هذه العودة، زادت مشاعر الفخر والكبرياء، وبتنا نشعر بالشموخ".
ويتابع: "مع هذا الحدث أكملت الصفحة بعض السطور غير المكتملة فيها، واكتملت معزوفة الشهادة التي نعتبرها قيمة وعبادة وشيئاً لا يمكن للعقل أن يتصور مدلوله إلا من تذوق حقيقتها، وعاشها بكل تفاصيلها".
وجاءت عملية عبيد التي تبنتها حركة الجهاد الإسلامي وأوقعت 23 قتيلًا وعشرات الجرحى، بعد سلسلة عمليات فدائية نفذتها حركة "حماس" في آذار مارس عام1996 ، والتي أوقعت عشرات القتلى، انتقامًا لاغتيال أحد قادتها العسكريين البارزين"يحيى عياش"، الملقب ب "المهندس"، وذلك حينما فجرت المخابرات الصهيونية هاتفه النقال مطلع العام ذاته بعد انتقاله من الضفة الغربية إلى قطاع غزة حيث كان يعتبر المطلوب رقم واحد لدولة الاحتلال.

شريط الذكريات
واستعاد محمد أبو مصطفى، وهو صديق مقرب من الشهيد رامز، ذكرياته مع هذا الشاب اليافع، الذي نشأ وهو يحمل بين جنباته حب الوطن، والشهادة في سبيله.
ورغم شعور أبو مصطفى بالألم والفرحة في آن واحد، وانفتاح جرح الذكرى من جديد، إلا أنه يعبر خلال حديثه، عن "فرحة غامرة بأنه جاء اليوم الذي يعود فيه جثمان الشهيد، ويشيعه أهله والمقربون منه إلى مقبرة إسلامية، بمراسم تليق بتضحياته التي قدمها في سبيل الله".

وتحدث أبو مصطفى عن أيام جمعته بالشهيد، برزت خلالها مواهبه الفنية، وحسه المرهف، وريشته المعبرة، وخطه الجميل، حتى جاءت الانتفاضة الأولى، ليكون رامز واحدا من الشباب المتحمس بكل معاني الثورة والإيمان، فكان جنديا مشاركا في كل أنشطة الانتفاضة تمتلئ جدران المخيم بشعاراته التي كانت تعبر عن مكنوناته".
وأوضح أن صديقه الشهيد تعرض خلال حياته لعدد من الابتلاءات على يد قوات الاحتلال الصهيوني التي أصابته بعدد من الرصاصات في ساقه، بتهمة إلقاء الحجارة على جيبات الاحتلال العسكرية، ويعتقل مرتين ويغيب خلف قضبان سجن النقب الصحراوي، ويلاقي المر كذلك في سجون الأجهزة الأمنية الفلسطينية بعد دخول السلطة إلى قطاع غزة عام ØŒ1994 إلى أن ختم حياته عام  1996بعمل مشرف يرفع رؤوسنا للأبد، حسب قوله.

كلنا رامز
وبعد استشهاد رامز، درج كل من أشقائه على تسمية أحد أولاده باسم الشهيد، حيث يقول ابن شقيق الشهيد الفتى رامز 15 عامًا: "كلما أشاهد صور عمي أشعر بأنه يعيش بيننا، أنا فخور باسمي لأنه مثل اسمه، الذي أتمنى أن أكون مثله، فعمي رامز قدم نفسه شهيدًا وقتل عددًا كبيرًا من اليهود، وهذا فخر لكل الفلسطينيين".
من جهته، قال "أبو حمزة" القيادي في "سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي خلال مشاركته في تشييع الجثمان: "إنها مناسبة عظيمة، فاليوم، العدو يرغم على الانصياع لمطالب الفلسطينيين، ويتحقق انتصار جديد للمقاومة بعد انتصار الأسرى الأخير".
وأضاف: "إن تحرير رفات شهدائنا دليل على أن المقاومة في انتصار متقدم، وأن عهد الهزائم الفلسطينية والانتصارات الصهيونية قد ولى، وتحرير فلسطين بات أقرب، وسيبقى إرجاع جثامين شهدائنا على رأس أولوياتنا".

ولا يزال المئات من ذوي الشهداء ينتظرون بفارغ الصبر ويعلقون آمالا غير منتهية، بإطلاق سراح رفات أبنائهم الشهداء الذين يحتجز الاحتلال جثامينهم في مقابر خاصة تعرف ب"مقابر الأرقام"، حيث ووري الثرى عشرات الشبان الذين نفذوا عمليات استشهادية داخل الأراضي المحتلة عام 1948، من بينهم شهداء مضى على احتجاز جثامينهم عشرات السنوات.

(المصدر: صحيفة فلسطين، 2/6/2012)