الثلاثاء 07 مايو 2024 م -
  • :
  • :
  • م

Content on this page requires a newer version of Adobe Flash Player.

Get Adobe Flash player

    معاناة برش

    آخر تحديث: الأربعاء، 25 إبريل 2012 ، 00:00 ص

    بقلم: حسام زهدي شاهين
    أسير مقدسي

     

     Ù…ا أن جلست عليه حتى بدأت أشعر بطاقة رفض غريبة، تنبذني وتدفعني عن هذا الحيز ذو الأرجل الأربعة، فلم يسبق لي وأن خضت تجربة لفظ المكان للإنسان بهذه القساوة، فدائماً الإنسان هو الذي لا ينسجم مع الأمكنة، غير أن العكس هو الصحيح هذه المرة، وهذا لا يعني أنني تكيفت مع واقع السجن، أو استسلمت لشروطه، إلا أنني في النهاية بحاجة إلى مكان لألقي بجسدي المتلبد بالهموم فوقه، أو حتى تحته، ليس مهماً الكيفية التي أكون عليها، المهم أن أستفيد من نعمة النوم، التي يستريح فيها الدماغ ويريح الجسد من أعبائه، فكثيراً ما تمنيت، لو أنني أمتلك القدرة على انتزاع دماغي من مكانه، وإلقائه في حاوية النفايات!
    فلو كنت قادراً على تجسيده ككائن حي، لأشبعته ركلاً ورفصاً، حتى يتراجع عن آفة التفكير المزعجة، التي راحت تثقل كاهل حياتي بمزيد من الشك والحيرة في إمكانية استنهاض الواقع الذي نعيشه! وبعد أن كنت في مصيبة واحدة، صرت في مصيبتين، لعنة "البرش" الذي يلفظني خارجه كبحر هائج، ولعنة الدماغ الذي لا يكف عن التفكير، ويواصل اغتصابي بأفكاره المثالية، وأنا الآن أشعر نفسي كحبة قمح تطحن بين وجهي الرحى. تجولت قليلاً في كف اللعنة التي تحتبس قبضتها على سبعة أجساد غير جسدي، واختلست النظر من حولي، بعين صياد ماكر ينتظر الانقضاض على فريسته، فكل واحد من رفاقي لديه ما يشغله، إلا أنا، أعتقد أن لدي ما يشغل الكون بأسره، وفي ذهابي وإيابي بين الباب والنافذة، تعاركت مع دماغي الذي يكابرني، وقررت أن أجرده من قيم الوقار التي يرتديها، لعله بهذه الطريقة يجد نفسه، ويهتدي لظالته، ويخفف عني حملي. وبعد جرعة انفعال، قذفت بعيني الغاضبة نحو "البرش" المتمرد في زاوية الزنزانة، فرأيته عارياً مني ومن أشيائي، فاستثار حنقي ونقمتي، وعقدت العزم على احتلاله عنوة، واغتصابه رغماً عنه، وبما أنني أكره الاحتلال وأرفضه، وأمقت اللواط وأنبذه، جملت الجريمة كعادة سياسينا في هذه الأيام، وأضفت تاء التأنيث "للبرش" فغدى بقدرة اللغة مؤنثاً، ولكي أكون أكثر دقة، بعبقرية تطويعي للغة صار "برشة"، ومع أن الاغتصاب جريمة مقرفة، إلا أنه في حالتي هذه شر لابد منه، والأدهى من ذلك، أنني كرجل، سبق وأن تعرضت لمحاولة اغتصاب من قبل فتاة إيطالية، واختبرت هذه التجربة القاسية والمريرة، فلولا لطف الله، وشهوتي المقيدة بالحب، وساقاي اللتين أطلقتهما للريح بعد تمزيق قميصي، وبعض الكدمات النفسية، وفيما بعد تدخل طاقم مكتبنا ومكتب الجيران والأخت العزيزة "لوسي نسيبة" بارك الله فيهم جميعاً، لتكررت معي حادثة النبي يوسف الذي أنقذه الله!
    اقتربت من جهته بخطوات مترددة، ووثبت فوقه بشجاعة نمر صغير يثب فوق أمه، فحذفني ناحية الجدار، وقال لي بصوت خافت واثق: أنت جبان، حتى تهديدك الذي ساورتك فيه نفسك لم تنفذه، فلا أنت قادر على احتلالي ولا تجرأت على اغتصابي، فمنذ أن اغتلتم روح التضامن الجماعي فيما بينكم، لم أعد قادراً على احتمالكم، ما أن يستلقي الواحد منكم بين أحضاني، حتى تراوده أحلام اليقظة التي أستطيع أن أسمعها بكل سهولة، فبعد أن كان همكم الانتصار على عدوكم، صار طموحكم هزيمة الواحد منكم للآخر، فغاب الإيثار عن ثقافتكم، واستوطنتكم الأنانية، واستفحلت في صفوفكم البلدية والجهوية، وبقدرة خيالكم المشوه، أصبحتم كلكم قيادات، ولا يعترف الواحد منكم بفضل الآخرين عليه، ولا يعلم ولا بمعرفة، وتريدني أن أستقبلك، بعد أن تخلصت من قرف الذين سبقوك. فقلت له: "لا أريد أن أبرر لك هذه الأزمة، غير أنها مؤقتة وستختفي أعراضها بزوال أسبابها، نحن نعاني من حالة خسوف في وعينا الوطني، وسرعان ما نستعيده كاستعادة الكون لضوء قمره. فضحك بصوته "الصرصاري" وهمس في أذني: يبدو بأن خسوفكم طال أمره، وأسبابه أصبحت جزءاً من حياتكم، وأعراضه باتت دائمة.
    في الماضي كنت أتعاطف معكم، أما اليوم، فإنني أشفق على نفسي منكم، آلاف الرجال مروا من فوقي، ولكل واحد فيهم حكايته الإنسانية، ومع أنني كنت مشبعاً بالهموم والألم جراء ما اكتشفت من مآسٍ، تحاملت على نفسي وصبرت، لأن مصيبتكم كانت أكبر من مصيبتي، أما اليوم، فالعكس هو الصحيح، لا أحد في الخارج يتحمل مسؤوليتكم التنظيمية، والمحاسبة في سبات عميق، وأنتم الذين كنتم تحركون الشارع برشدكم، أصبحتم كالمراهقين تحتاجون إلى من يرعاكم، فلا تضغطني بكلامك أكثر من ذلك، حتى لا أؤذيك، خذ فرشتك وارحل بعيداً عني! ولكنك صديق الأسرى على مدار سنوات طويلة، ولا يعقل أن تتخلى عن واجبك اتجاهنا لمجرد نزوة عابرة. واجبي، وماذا عن واجباتكم تجاه أنفسكم، واتجاه مشاعري المتحفة بالهموم؟!. أنت تعلم أننا كالبحر، نمر في مراحل مد وجزر، والجزر الذي نحن فيه اليوم أشبه باستراحة مقاتل، من حقك أن تعاتبنا، ولكن أن تقاطعنا بهذه الطريقة المؤلمة، فهذا ما نرجو منك أن تعيد النظر فيه. تحدث باسم نفسك فقط، وإياك أن تخاطبني بلغة "النحن" مجدداً، لأنك تعلم أنه من حيث الشكل يوجد من يمثلكم، أما من حيث الجوهر، فأنتم تفتقرون لهذا الإجماع، فجرثومة الفردانية تنهش في جسدكم الجماعي، الذي اشك أنه تبقى منه جزء معافى، وبهذه المناسبة قل لي: هل حقاً أن وزيركم لا يعلم لماذا ميسره أبو حمدية ويوسف سكافي وعاطف وريدات، وخضر عدنان وهناء الشلبي وكفاح حطاب، وغيرهم، خاضوا ويخوضون معاركهم لوحدهم؟. لا، إنه يعلم، ولكنه بتساؤله هذا، يحاول أن يدعونا إلى توحيد صفوفنا ورصها، صحيح أن الدعوة لوحدها غير كافية إن لم تكن مصحوبة بإجراءات ملموسة، غير أن هذه هي إمكانياته الراهنة، فالوضع في الخارج ليس أحسن حالاً من الوضع في الداخل. هه..هه، ما أسرعكم في تبرير أخطائكم، وتغطية عجزكم، تؤثرون بعض المكاسب والامتيازات الآنية على حساب مواقفكم وعلاقاتكم التاريخية والإستراتيجية، وتتركون عدوكم يتفرد بكم كحال الثور الأبيض وبسهولة تعلقون كل ذلك على شجاعة الحفاظ على الواقع، وتفويت الفرصة عليه، وأنا لا أدري أي واقع هذا الذي تتحدثون عنه، وأية فرص هذه التي فوتموها ولم يستغلها عدوكم بعد؟!. المجتمع الفلسطيني، فينا ما فيه (DNA) أرجوك، لا تعمم الرواية علينا بهذه الطريقة الظالمة، فنحن من محاسن، وفينا ما فيه من أمراض اجتماعية وسياسية وثقافية وغيرها، وسنعالج أنفسنا بأسرع مما تعتقد. إذاً، اغرب عن ظهري الآن، ومتى تنجحون في استئصال أورامكم الخبيثة، ستجدني خير مرحب بكم ومدافع عنكم، وأنا في هذه اللحظات لن أكون "كاثوليكياً أكثر من البابا". حملت فراشي وخيبتي وهمي ونمت على الأرض في تلك الليلة، لعلني أستطيع أن أجد مدخلاً مناسباً أقنع خلاله "البرش" على استيعابي مرة أخرى، فهل من مغيث؟!.

    (المصدر: صحيفة القدس الفلسطينية، 25/4/2012)


    أضف تعليق



    تعليقات الفيسبوك

حسب التوقيت المحلي لمدينة القدس

حالة الطقس حسب مدينة القدس

استطلاع رأي

ما رأيك في تضامن الشارع الفلسطيني مع الاسرى في معركتهم الأخيرة في داخل سجن عوفر؟

43.5%

16.7%

35.2%

4.6%

أرشيف الإستطلاعات
من الذاكرة الفلسطينية

استشهاد ذاكر أبو ناصر وسائد مصيعي من سرايا القدس بعد اشتباكهما مع قوات الاحتلال التي حاصرت منزلهما بمخيم نور شمس بطولكرم

07 مايو 2004

أولى عمليات جيش الجهاد المقدس ضد ثكنة للجيش البريطاني غرب القدس، حيث أطلق عبد القادر الحسيني الرصاصة الأولى لبدء الثورة

07 مايو 1936

بدء العمل لبناء أول 100 منزلاً في مستوطنة (أهوزات باييت) وهي التي ستعرف لاحقاً باسم (تل أبيب)

07 مايو 1909

الأرشيف
القائمة البريدية