السبت 18 مايو 2024 م -
  • :
  • :
  • ص

Content on this page requires a newer version of Adobe Flash Player.

Get Adobe Flash player

    الأسير المحرر جبري يسلط الضوء على إنسانية الأسير الفلسطيني

    آخر تحديث: الثلاثاء، 07 أغسطس 2012 ، 00:00 ص

    عدا عن حكايات التضحية والنضال والصمود الأسطوري للأسير الفلسطيني في سجون ومعتقلات الاحتلال يبرز البعد الإنساني لهذا الأسير في حكاية كل أسير عن تجربته، عن أحلامه وطموحاته وأهدافه، تماما كما تبرز في إبداعاته سواء الفكرية أو الفنية، فهذا الأسير من لحم ودم له أهل وأصدقاء وعالم خاص به، له مشاعر وأحاسيس كما لكل بني البشر. وضمن هذا السياق يقول د. فهد أبو الحاج، مدير عام مركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة في جامعة القدس أن الأسير الفلسطيني إنسان أولا وأخيرا، بل إن طبيعته الإنسانية دفعته للبحث عن حريته وحرية شعبه والتضحية بأغلى ما يملك من أجل تحقيق ذلك مشيرا إلى أن تجربة الحركة الأسيرة على مدى عقود تجسد حقيقة البعد الإنساني للأسير الفلسطيني بنضاله من أجل الحرية وبأحلامه وآماله وتطلعاته وتضامنه مع نضالات كل أحرار العالم.
    التجربة الاعتقالية للأسير المحرر المناضل محمود جبري الذي سلط الضوء ليس فقط على الملامح العامة والقواسم المشتركة للأسرى بل وأيضا على البعد الإنسان للأسير الفلسطيني.
    الأسير المحرر محمود جبري هو محمود جبري محمد خصيب -أبو طالب-ØŒ من مواليد وسكان قرية عارورة – رام الله، متزوج وأب لأربعة أبناء، وقد تم اعتقاله للمرة الأولى في العام 1985 لمدة عام ونصف تلاه العديد من الملاحقات Ùˆ الاعتقالات بلغ مجموعها ثلاثة عشر عاماً كان آخرها الاعتقال لمدة تسعة أعوام منذ بداية العام 2003 بعد مطاردة لمدة عامين وتم الإفراج عنه بتاريخ 28/12/2011 في الدفعة الثانية من صفقة تبادل الأسرى التي تمت بين حركة حماس ودولة الاحتلال.
    ويروي الأسير المحرر محمود جبري تجربته على النحو التالي: أستطيع أن أوجز تجربتي الخاصة التي هي في الأصل جزء من تجربة نضالية عريقة عامة سطر حروفها جيل من سبقونا في الحركة الوطنية الأسيرة في سفر المعجزات، فأقول إن تجربتي مرت بثلاث مراحل كل منها لها سماتها الخاصة.

    الاعتقال الأول
    ففي الاعتقال الأول دخلت إلى سجن رام الله في حينه وبعد ذلك سجن الخليل على واقع منظم شبه مثالي صاغه الفدائيون الأقدم منا في الاعتقال يتمثل بالالتزام والانضباط والعلاقات المتينة بين أبناء التنظيم الواحد التي يحكمها نظم ولوائح وممارسات تبدأ بتنمية الأخلاق الحميدة لتصل إلى نظام إداري قائم على توزيع المسؤوليات والاحتكام إلى لوائح تنظيمية تمثل قانون التعامل بين الأسرى وكما كانت العلاقات الداخلية مهمة داخل التنظيم الواحد كانت لا تنقصها أهمية العلاقات الوطنية والفصائلية من خلال أعراف وقيم ومثل شكلت أساسا في تنمية الوعي الديمقراطي لدى الأسرى وفي مقدمة ذلك قبول الآخر واحترام وجهات النظر الأخرى وخضوع الأقلية لرأي الأغلبية واحترام الأغلبية لرأي الأقلية، هذه الأمور كانت الأساس في صقل الشخصية العامة للأسير، أما الجانب الآخر كان بناء الذات وشحذ الفكر، وبهذا الجانب كان يتم تحويل الشخص من مناضل عفوي قد يكون وصل السجن نتيجة اندفاع عاطفي أو عمل عفوي إلى مناضل حقيقي عقائدي ينطلق من قناعات فكرية قادر على ترويجها والدفاع عنها، وهذه التجربة كانت ونتيجة للمناخ العام تختلف عن سنوات الدراسة في المدرسة، وقد لاحظت الفرق شديدا إذ أنه لم يكن قد مضى على إنهائي لامتحانات الثانوية العامة سوى أسبوعين قبل اعتقالي.
    في المدرسة كنت اضجر من القراءة والكتب وأقضي جل الوقت في الدرس متثائباً، لكن في السجن كنت أقبل على الجلسات والكتب والكراسات بنهم وشغف، أريد أن اعرف كل شيء في نفس الوقت كمن يبحث عن سر الأسرار يسابق الزمن ويلتهم المعرفة.
    بدأنا في برنامج المبتدئين وعيوننا تتجه إلى برنامج المتقدمين ما أن وصلناه حتى اتجهت إلى برنامج الكوادر، لم يبقى شيء إلا وتعلمناه في السجن.. كان سهلا على الشخص أن يجد عائلة أكبر من عائلته وأهل اقرب من أهله يعيش علاقات لا تحكمها مغريات الحياة ومشاغلها، يتألف مع المكان ويألف الزمان ويعشق البشر المحيطين به حتى أن لحظة الإفراج تكون صعبة لأنها ستكون لحظة وداع وفراق قد تذرف فيها الدموع ويعلو فيها النشيج.
    ووسط ذلك كانت حالة الصدام الدائم مع إدارة السجن تشكل عزاءً وحافزاً على الصمود خاصة بعد صفقة تبادل الأسرى 1985 (صفقة جبريل)، وكانت مصلحة السجون تشن هجوما على منجزات الحركة الأسيرة التي حققها من سبقونا بتضحياتهم وصمودهم ومقاومتهم..
    فحالة التصدي الدائم لممارسات واستفزازات إدارة مصلحة السجون كانت دائما توقظ شعور الأسير أنه في خندق نضالي متقدم في التصدي لحملات التفتيش التي كانت تقوم بها إدارة السجن والتي كانت في ذاك الوقت تستهدف كراساتنا الثقافية والفكرية والسياسية تلك التي كان قادة الأسرى قد كتبوها بخط أيديهم ونتاج مخزون عقولهم وفكرهم المتقد، كما كانت حالة اليقظة حاضرة لمواجهة محاولات الإدارة المساس بكرامة الأسير، وكثيرا ما كانت تُتخذ قرارات صادرة عن اللجان النضالية العامة لمواجهة مثل هذه الممارسات مثل رفض التفتيش العاري أو ضرب أحد أفراد الشرطة... الخ وكانت هذه القرارات ملزمة واجب تنفيذها لكل الأسرى.
    إن أهم ما ميز تلك المرحلة أنها أوجدت قاعدة علاقات واسعة داخل التنظيمات ساهمت وساعدت في إنجاح بناء الهياكل التنظيمية التي قادت الانتفاضة الأولى المباركة.

    خطوات نضالية
    كانت الخطوات النضالية لها أشكالها بحسب حجم المواجهة وكان أرقى هذه الأشكال وأقواها هو الإضراب المفتوح عن الطعام و لهذا الشكل من المواجهة خصوصية عالية حيث أنه الأمر الوحيد الذي يلزمه قرار نضالي بالإجماع من كافة الفصائل والتنظيمات وكذلك استفتاء عام داخل كل تنظيم على حدة إذ لا يجوز التفرد في القرار في هذه الحالة وغير مسموح القيام بخطوات فردية كان يقوم شخص أو مجموعة أو حتى تنظيم بالإضراب لوحده.
    كان يسبق الإضراب مسيرة عمل على عدة جبهات أهمها الجبهة الداخلية بحيث كانت تستدعي الإعداد الجيد والتعبئة وشحذ الهمم وكانت تشكل لهذا الغرض لجان نضالية من كافة التنظيمات توزع عليها المهام مثل اللجنة الصحية التي تقع على عاتقها مهمة التوعية الصحية للأسير خلال فترة الإضراب وطريق فك الإضراب وكيفية التعامل مع المضاعفات إن حصلت، ولجان أخرى تختص بالتعبئة مهمتها إعداد الأسرى لمواجهة إشاعات الإدارة والحرب النفسية التي ستشنها إدارة مصلحة السجون ولجان تختص بشرح الحقوق المسلوبة والحقوق المهددة الواجب استعادتها والمحافظة عليها وكذلك تحدد لجان للتواصل مع الخارج ولجان المفاوضات مع الإدارة ولجان ظل تقوم بإدارة الواقع في حال تم عزل قيادة السجن في الدقيقة التسعين وعند الإعلان عن بدء الإضراب تشكل لجان وطنية لإدارة شؤون السجن ويتم حل الهيئات التنظيمية بحيث لا يكون هناك سلطة أخرى غير سلطة اللجان الوطنية.
    كانت تلك الفترة تركز على تعبئة الأسير بالقيم الثورية التي تجعل منه في حال تحرره عنصر جذب وتأثير على الجماهير، وآلية مواصلة عطائه النضالي بطرق آَمنة تبعد عنه شبح الاعتقال وإن اعتقل تجعل منه مناضلا صلبا في التحقيق بحيث يكون مدركاً لأساليب التحقيق من جهة ومتوقعا للخطوة التالية حتى يتمكن من مواجهتها. عندما يقال أن السجون كان يراد لها أن تكون مقبرة للروح الوطنية والثورية ومعازل تستخدم لإفراغ الإنسان الفلسطيني من محتواه الوطني والنضالي وتحويله إلى كم مهمل ومفرغ يشكل عبئاً على شعبه وثورته ويكون عبرة لمن يعتبر بدلا من أن يكون مثلا أعلى يحتذى فقد تم تحويلها بفعل عطاء وتضحيات وصمود الأسرى الذين نذروا أنفسهم لمواصلة النضال في كافة الميادين والساحات إلى مدارس ومعاهد وجامعات ثورية تخرج الأجيال لتواصل الثورة والنضال.

    اعتقالات متكررة خلال الانتفاضة
    الاعتقالات التي تلت كانت في الانتفاضة الأُولى وما ميز هذه المرحلة كان شموليتها لكافة شرائح المجتمع الفلسطيني ففي الفترة السابقة كان الأسرى من فئات محددة أما في هذه المرحلة فأصبحوا مئات وألوف وعشرات الألوف ممن دخلوا السجون والمعتقلات سواء في الإداري أو الاعتقال الاحترازي أو ممن حوكموا لفترات طويلة أو قصيرة كان لهم تأثير في حال الحركة الأسيرة إذ أنهم اوجدوا واقعاً جديداَ جعلها تفتقد للقيادة المركزية التي طالما كانت تقودها في الخطوات الاستراتيجة، ففي الوقت الذي افتتح فيه سجن النقب والأعداد الهائلة التي كانت موجودة فيه أصبح مركزًا آخر للثقل و القيادة ومع ذلك حتى في مرحلة دخول هذه الأعداد الهائلة من الأسرى وفي وقت قصير للمعتقلات إلا أن الحركة الأسيرة كانت ما تزال تحافظ على القيم والمثل والأعراف التي تقوم على أسسها صلابة الحركة الأسيرة إذ أن معظم الأسرى الذين اعتقلوا في بدية الانتفاضة الأولى هم أصلا كانوا أسرى محررين في أوقات سابقة فنقل هؤلاء التجربة وعمموها وآثروها بتجاربهم الشخصية والعملية لذلك نجد أن تجربة معتقل النقب لا تقل نضوجا وأهمية عن تجربة سجون أخرى مثل جنيد وعسقلان ونفحة وشطة.
    وميز تلك المرحلة بروز تنظيمات جديدة على ساحة النضال الوطني تحاول أن تصبغ الواقع بنموذجها الخاص وكثيرا ما كانت تخشى الانخراط في المؤسسات النضالية العامة خشية ذوبانها في عراقة التجربة التي كانت سائدة مثلا كانت التنظيمات الوطنية قد وصلت إلى نتيجة قررت على إثرها وقف التحقيقات الأمنية القاسية واقتصارها على الاستجوابات و المراجعات فقط كانت تلك التنظيمات تصر على الإبقاء على هذا الأسلوب من العمل الأمني الذي خلف الكثير من الضحايا وهذا ناتج عن تباين في الوعي بين من يعتبر الحالات الأمنية ضحايا احتلال ومن يعتبرها مجرمين بحق شعبهم، مع ذلك فان هذه المرحلة كانت رافدا أساسيا للانتفاضة الأولى بجيل واع من المناضلين المتمرسين في العمل التنظيمي ذاك الجيل القادر على إجراء حراك متفاعل لتقييم وتقويم الأداء التنظيمي على الأرض.

    قيادات ميدانية
    كان تركيز العمل في تلك المرحلة على أعداد اكبر عدد من قيادات الميدان الذين تقع على عاتقهم مسؤولية قيادة الجماهير في مدنهم وقراهم ومخيماتهم وأحيائهم تلك المواقع التي كانت تمثل ساحة المعركة خلال الانتفاضة الأولى وذلك من خلال العمل على صقل المناضل فكريا بحيث يكون قادرا على إشراك أكبر عدد ممكن ممن يحيطون به في فعاليات الانتفاضة وتوعيته لطبيعة المهام التي سيقوم بها سواء على الصعد الإدارية أو الأمنية وحتى القضائية التي كانت تفض خلافات المواطنين دون اللجوء للمحاكم التي كان يشرف عليها الاحتلال، كما التدريب على آليات تفعيل كافة شرائح المجتمع فيما يخدم نجاح الفعاليات النضالية اليومية.

    مطاردة
    ومع بداية الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) وكوني كنت أعمل في مكتب اللجنة الحركية العليا لحركة فتح /الضفة الفلسطينية مع الأخ مروان البرغوثي أمين سرها وقائد التنظيم في الضفة ومهندس انتفاضة الأقصى وكون المكتب أصبح قبلة المناضلين المشاركين في الانتفاضة كنا من أوائل المطاردين إلى أن تم اعتقالي في بداية العام 2003. كثيرة هي الأمور التي وجدتها قد تغيرت في هذه التجربة عما سبقها وذلك لعدة أسباب منها آثار اتفاقيات أوسلو وقدوم السلطة إلى أرض الوطن و قوة التنظيمات الإسلامية أما القضية الأولى فكان لها آثارها السلبية كما الايجابية.
    الايجابية كانت وجود مؤسسات تابعة للسلطة تعنى بشؤون الأسير وتأمين احتياجاته من محامين ومعاش ومصروف كانتين سيما وأن إدارة مصلحة السجون كانت قد عملت تقليصات كبيرة في مستحقات الأسير مثلا لم تعد تصرف سجائر للأسير ولا شفرات ومعجون حلاقة ولا فرشاة أو معجون أسنان ولا ملابس باستثناء زي مصلحة السجون ولا صابون ومواد تنظيف.
    كل هذه الأمور باتت على حساب الأسير أي أن تكلفة الأسير باتت تنفقها إدارة مصلحة السجون على تطوير وسائل التضييق والقمع وبناء سجون جديدة وتحصينها، من جانب آخر بات الأسير مسجوناً على حسابه الشخصي فهو مطلوب منه تأمين كافة احتياجاته الأساسية وكذلك الطعام المعتمد على ما توفره كانتين السجن.

    تأثير قيام السلطة الوطنية
    إن انكشاف الحالة التنظيمية بعد قيام السلطة وعودة جزء من القيادة من الخارج كان له أثره على الحركة الأسيرة بحيث أن بعض التنظيمات أوقفت برامجها التنظيمية واقتصر نشاط الهيئات التنظيمية فيها على إدارة شؤون الحياة اليومية اختلفت الرؤى والأولويات حتى الإضراب المفتوح عن الطعام خرج عن إطار الإضراب المطلبي ليكون في بعض الأحيان إضراب سياسي. في عام 2004 وبعد تمادي إدارة مصلحة السجون في قمعها وتضييقها على الأسرى مستفيدة من الحالة الدولية التي باتت تناهض الإرهاب وفي محاولة منها لوسم نضالنا الوطني بالإرهاب بدأت تمارس شتى أصناف الاستفزاز والقمع وامتهان الكرامة من خلال إجراءات التفتيش العاري والتنقلات المستمرة وإمعان وحدات مصلحة السجون مثل وحدة «Ù†Ø­Ø´ÙˆÙ†» Ùˆ «Ù…تسادة» Ùˆ«ÙˆØ­Ø¯Ø© السميم» (مكافحة المخدرات) في إذلال الأسرى وقمعهم، ولهذا كان القرار بخوض الإضراب المفتوح عن الطعام حيث كان قد تأجل عاماً وذلك بسبب صفقة تبادل الأسرى مع حزب الله في العام 2003.
    إن تجربة الإضراب لم تكن جديدة علي لكنني اكتشفت فيها شيئا جديدا هو أن أعضاء الجسد وأعصابه وأحاسيسه تنتظم مع إرادته في الثأر لذاته و لكرامته و لحريته المعنوية تبحث عنها في المسامات الدقيقة في جدران الاسمنت الباردة، في انسياب شعاع نور تسلل إلى زنزانتك خلسة عن عيون السجان في أجزاء الثواني الثقيلة التي تمر بتردد تحاول أن تنتزع منك الأمل.
    نعم في إضراب 2004 لم تكن الانجازات كما ينبغي لكنها بالحد الأدنى أوقفت هجمة شرسة كانت تهدف إلى علاج الوعي الوطني والثوري الفلسطيني بالكي بالنار وحرفة عن الاتجاه الصحيح.

    حرمان من الزيارة
    في هذا الاعتقال تم نقلي في معظم السجون ولفترات زمنية مختلفة ومنعت من الزيارة لفترات طويلة تارة كعقاب لي وتارة أخرى كعقاب للأهل ولأسباب واهية حتى أن أحد الأسباب أنه لا يوجد صلة قرابة بيني وبين والدتي وهذا حال معظم الأسرى بل أن منهم لم يزره أهله لمدة تصل إلى عشر سنوات، في السجن عندما تكون ذو تجربة سابقة يعني أنه مطلوب منك دور مميز كان تكون أب أو أخ أكبر لشبان عديمي التجربة الاعتقالية وأن تستوعبهم وتحتويهم وأن تتعامل مع نفسياتهم المختلفة حتى ولو على حساب أعصابك وصحتك أي انك لست ملكك بل ملك الآخرين المحيطين بك.
    في السجن عندما تكون طبيعيا فانك هيكل قائم على أزمات قد لا تكون مأزوما لكنك تعيش مجموعة من الأزمات صحيح أن الأسير مناضل وثائر وصنديد واستثنائي قادر على تحمل الصعاب وتطويع الظروف ومتوقعا منه ما لم يتوقع من الآخرين لكننا نظلمه إذا لم نتذكر أنه إنسان له همومه وشؤونه واهتماماته وأحلامه وآماله بل قد يكون أكثر من الآخرين حساسية وعاطفية وحالما متفائلا محبا للحياة الكريمة الجميلة الخالية من القهر والذل والاستعباد ولذا فهو مناضل حمل هموم شعبه وقضيته وناضل من أجلها وبالتالي اعتقل وأصبح أسيرا.

    أزمات
    قد تكون أزمة الحرية إحدى هذه الأزمات فهو يبحث عن حريته في كل شيء، في تأمله لخيط غبار تعلق على شعاع الشمس المتسلل من شباك زنزانته الذي بالكاد يتسع له يبحث عنها في القراءة حتى لو كانت ابسط الروايات ليعيش في أحداثها خارج نطاق الزمان وضيق المكان أو الكتابة حتى كتابة رسالة لأي شخص مهما كان بعيدا عنه ليروي له عن أحلامه وآماله في فضاءات الحرية. يبحث عنها في رسوماته وخربشاته على وجه صفحة استلقت أمامه مخدرة بلا حراك يترجم عليها خيالاته وشروده ما أن يفيق حتى يرى طوطم حريته مسجى أمامه.
    أما أزمة الخصوصية التي يرغم الأسير أن يتنازل عنها بحكم الظروف فانه يبحث عنها فلا يجدها إلا في بعض مظاهر الحياة المكبلة، فقد يجدها في ترتيب ملابسه في الرف المخصص له وربما بعدم ترتيب ملابسه أو التميز في طريقة طوي فراش نومه أو السير بمفرده في ساحة النزهة وهذه قلما وندر أن تتاح للأسير فرصة القيام بها، فالمعتقل مجتمع لا خصوصية فيه.
    وأزمة الصحة التي يعيشها الأسير ناتجة عن إهمال متعمد من قبل إدارة مصلحة السجون للموضوع الصحي أو لوجود أزمة ثقة أصلا بين الأسير والطبيب السجان فعلاجهم المسكنات وطبيب الأسنان علاجه القلع ولطالما مارس هؤلاء الأطباء الضغط على الأسرى خلال التحقيق أو كانوا يبتزون الأسرى لإجبارهم للعمل عملاء مع إدارة المعتقل، لذا فهو يلجا إلى استخدام بدائل مثل الحجامة لعلاج الصداع والفصد لعلاج آلام المفاصل وكثيرا ما يلجا الأسرى إلى عمل المساجات القاسية للتخلص من الوّثاب أو التقلصات العضلية وخلطات مواد التنظيف من أنواع صابون وشامبوهات لعلاج الأمراض الجلدية إن وجدت أو للوقاية منها.

    أزمة الروتين
    لا جديد في حياة الأسير ولو أذعن لهذا الروتين لأصبح يتآكل من الداخل حتى يذوي وينتهي، فالأيام متشابهة والأحاديث كذلك حتى البشر بعد مضي عدد من السنوات يبدون متشابهين أو على الأقل متعارفين ومعروفين لا تتفاجأ في أي منهم ولا تندهش مما يبدر منهم فلا جديد سوى أحلام تأوي إلى فراشك ذات مساء تحدث بها أصحابك طوال الأسبوع أو تبحث عن مُأول للأحلام ليفسرها لك أو تأتي بخبر من زيارة الأهل يفضي على الأجواء مظاهر الحياة اليوم يجد الأسير في محطات الإذاعات المحلية محطما للروتين من خلال برامج التواصل مع الأسرى.
    لو قيل لأحدهم أن الأسير يعاني من أزمة في الوقت لربما ضحك بملء فيه أو أدار رأسه مستهجنا، لكن الحقيقة أن الأسير يعاني من أزمة في الوقت، في إدارة الوقت أو التحكم به، ففي الصباح تستيقظ على عدد الصباح الذي يحدد وقته السجانون وبعدها يبدأ يومك في عرفهم وقت النزهة الصباحية (الفورة) لا خيار لك إلا أن تخرج أو أن تبقى حبيس زنزانتك حتى نزهة المساء، وقت طعامك حتى وقت ذهابك إلى المرحاض في بعض الأحيان ليس حسب إرادتك إذا تزامن مع وقت العدد أو الفحص الأمني، وقت نومك يستباح في وقت التفتيشات الليلية حتى في بعض السجون حاولوا التدخل في وقت الصلاة مع أن وقت صلاة الجمعة يتحكمون به إذا هي أزمة الوقت التي يعاني منها الأسير وبالحديث عن أزمة العاطفة فكما أسلفنا قد يكون الأسير أكثر من الآخرين عاطفيةً وحساسيةً عواطفه جياشة دائم الشوق والحنين للأهل والأحبة والأصدقاء والأمكنة والمساحات والفضاءات والأشجار والثمار فقد يحنو على عصفور علق داخل الأسلاك الشائكة فتكون عنده قصة حزينة يتحدث عنها لسنوات، أو تجده يتفاعل مع نكته بسيطة ويضحك عليها بنشوة طفل صغير يحن إلى أدق تفاصيل الحياة خارج المعتقل ترتعد أوصاله وتنتصب شعيرات جسده عندما يتحدث أو يستمع إلى حديث شجن عما يحن إليه، عن الأهل، عن الأبناء، عن الإخوة، عن حفلة عرس أو بيت عزاء أو أيام قطاف الزيتون أو فعاليات كفاحية بمناسبات معينة، كتلة من المشاعر عندما لا تجد لها مخرجاً تنسحب إلى الداخل فتضيق بها النفس فتخرج دون إرادة في بعض الأحيان بصورة ما وبشكل ما.
    قد أكون تناولت التجربة الاعتقالية من زاوية أخرى غير تلك التي طالما تحدث عنها زملائي الآخرين ولكنني واثق من أن ما قلته وغيره الكثير مما يجب أن يقال لهو تعبير حقيقي عن حالة الأسر والأسرى هذه الأيام فالأسير الإنسان مفقود لا يجده أحد ولا يوجده أحد في ذاكرة الشعب والأجيال فذاك الإنسان الجبل والمتراس ننسى أو نتناسى أنه ذاك الشاب الصبي الذي يستهلك ويقضم عمره أمام ناظريه فالأيام تتوالى والسنون تمر والزمن يمضي ويشيخ ذاك الشاب وهو يحلم بفتاة أحلامه التي رسمها بريشة أحلام الطفولة على جدران ذاكرته، إنه ذاك الأب الذي يكبر أبناؤه وهو بعيد عنهم قسريا همهم يثقله، تؤرقه تساؤلاته:- كيف يمضون أوقاتهم؟... كيف ينامون؟... كيف يأكلون؟... من يساعدهم في دروسهم؟....؟ تساؤلات كثيرة تعرفها أمهم وحدها، هو ذاك الابن الذي يراقب كيف يحفر الزمن قساوته أخاديداً على وجه أمه التي ما عادت تستطيع زيارته بشكل دائم كما كانت بعد أن أعياها المرض وحرق قلبها طول الغياب.
    قد أكون تجرأت ونكأت جرحا طالما أخفاه الأسرى حفظاً لكرامة دفعوا أعمارهم وحريتهم دفاعا عنها، لكنها الحقيقة المرة التي لا بد من تجرعها علها تدفع إلى تضامن أفضل على المستوى الشعبي مع الأسرى واهتمام بهم على المستوى الرسمي ويليق بهذه القضية الوطنية بامتياز ذات البعد الإنساني الصرف.

    (المصدر: صحيفة القدس الفلسطينية، 5/8/2012)


    أضف تعليق



    تعليقات الفيسبوك

حسب التوقيت المحلي لمدينة القدس

حالة الطقس حسب مدينة القدس

استطلاع رأي

ما رأيك في تضامن الشارع الفلسطيني مع الاسرى في معركتهم الأخيرة في داخل سجن عوفر؟

43.5%

16.7%

35.2%

4.6%

أرشيف الإستطلاعات
من الذاكرة الفلسطينية

استشهاد المجاهد زياد شبانة من سرايا القدس أثناء تصديه للقوات الصهيونية المتوغلة في تل السلطان بمدينة رفح

18 مايو 2004

جيش الاحتلال الصهيوني يشن عدوان قوس قزح في رفح، ويهدم عدد من المنازل، وسقوط 30 شهيداً

18 مايو 2004

دخول أول دفعة من شرطة سلطة الحكم الذاتي إلى قطاع غزة ومدينة أريحا

18 مايو 1994

قوات الاحتلال الصهيوني ترتكب مجزرة في قرية منصورة الخيط قضاء صفد

18 مايو 1948

الأرشيف
القائمة البريدية