10 مايو 2024 م -
  • :
  • :
  • ص

Content on this page requires a newer version of Adobe Flash Player.

Get Adobe Flash player

    آخر ليلة سجن... ذكريات أسير محرر

    آخر تحديث: الإثنين، 19 أغسطس 2013 ، 00:00 ص

    لم أنم تلك الليلة، وبقيت أحفظ أنواع الشخير، وكنت أعرف أياً من زملائي قلب على الجنب الآخر رغم أن عيوني لم تفارق السقف، وكان الليل طويلاً، وخفت أن تنسى إدارة السجن أن موعد حريتي اليوم، وخفت أن يبقوني انتقاما؛ فقد رفضت مرة الوقوف على العدّ حيث كانت رجلي تؤلمني، ولكن قانونهم يجبرهم على اطلاق سراحي.
    كم تمنيت أن يتوقف تفكيري ولا يعود إلا على مشارف بلدتي، وكم تمنيت ان أنام وأستيقظ في حضن أمي، وكم تمنيت أن أغمض عيني وأفتحها وأنا على حاجز الظاهرية، ولكن خفت ألا أجد أحداً ينتظرني، فربما نسوا أو تاهوا عن المكان، أو ربما لا يعلمون يوم الافراج عني، فوقفت حائرا؛ فأنا لا أحمل مالا لأدفعه أجرة للطريق، وأنا لا أعرف أحداً في الخليل، فصار تفكيري يذهب يمينا وشمالا، ووصلت إلى باب رئيس البلدية؛ فخجلت من وقفتي وعدت إلى الطريق، وقررت ان امضي مشيا على الاقدام، وكانت اصوات الزيت ورائحة الفلافل ترافقني، وقطوف الموز لم ارها منذ سنين، وحبات التفاح، والحلويات يتزعمها سدر الكنافة، وصوت الزيت المغلي يشوش افكاري. هدأ الزيت، فسمعت في غمرة الهدوء همسات وصوت رؤوس أصابع، وعاد الزيت من جديد، آه كم يشبه صوت الدش في الحمام صوت الزيت وهو يغلي.
    قالوا لي: جاء السجان. ازدادت نبضات قلبي وارتفع صوتها، لم اصدق أن الحرية على الابواب تنتظرني، وسمعت صوت السجان خافت على غير عادته، ينطق باسمي مرة واحدة ويصمت، واقشعر جسمي، وكأن الهواء نفذ من الغرفة، وأجاهد لالتقاط ما تبقى لي من أنفاس في الغرفة، وانتظرت أن يناديني ولو لمرة أخرى، فقد سبق له أن كان ينادي المفرج عنهم بصوت جهور ويكرر الصوت حتى نرجوه أن يصمت، فلم نكون قد شبعنا من وداعهم، ورفاقي ينهرونني لاستعد، ويخبرونني أن صوت السجان قد بح، وتكرار اسمي جعلهم يملونه.
    التفتُّ ذات اليمين وذات الشمال، ثمّ اليمين وثمّ الشمال، ولم أرى من أغراضي إلا بقايا شبشبي، فالتقطتُ فردة بطرف أصبع رجلي اليمنى، والفردة الاخرى بيدي اليسرى، وانطلقت إلى الباب، فلحقتني عبارات زملائي وقد نسيت أن أودعهم، ونسيت مطرزاتي وهدايا رفاقي المتواضعة. سامحوني يا إخوتي فلم أنسكم ولن أنسكم ولكني لا أصدق أن أغادر وأن لا أعود، سامحوني فأنتم جزء من حياتي، والتفت إلى وجوههم مصطفة كي اقبلها، وعيونهم تلمع وبعض أصواتهم حشرت بالحناجر، كان الوداع مؤلما كألم سنوات السجن، نسينا أننا توادعنا ليلة الامس، ونسينا اننا نتوادع منذ أيام، ولكن وداع اليوم يختلف، فغدا ربما لا استيقظ على اصواتهم، وربما غدا لا اكون على صف معهم نؤدي الصلاة، وربما صوت الزيت في مقلى الفلافل غدا ينسيني صوت الماء المنهمر من الدش.

    مشيت في رفقة السجان، مشيت مسافات طويلة جدا، رغم أنها ذات المسافات التي نمر بها في أروقة السجن، فطولها طول الليلة الماضية. وصلت إلى بوابة الظاهرية، ونظرت إلى الناس والسيارات، وسمعت اصوات جميلة تصيح وتنادي بعضها البعض، ووجوه لم ائلفها من قبل، وقفت وقفة المبهور، وتجولت في ناظري إلى اقصى المسافات، وتاملت الوجوه واحد تلو الاخر، وظهر لي من هناك وجوها تبتسم لي ولا اكاد أميزها، وتناديني وأنا التفت خلفي فربما ينادون غيري، وتقترب أكثر وأشعر أنها تقصدني فقد ميزت بعضها واستغربت وجودها في هذا المكان البعيد، فصرت اشيح في وجهي فعّل الابتسامات كانت لغيري، وأعود لانظر مرة أخرى في الوجوه، والابتسامات تزيد ويرافقها النطق باسمي، واقتربت اكثر فاكثر، فاذا هي وجوه أحبتي، اخوتي وأقاربي وأصدقائي وأبناء بلدي، وعيوني تتنقل بين عيونهم، ابتسامات ودموع، وايدي مفتوحة، واحضان دافئة، وتهافت الاسئلة، اين أمي؟ اين ذاك الحضن الحنون، مشت السيارات ستون ساعة واكثر، واصوات الرياح والشجر، واشكال جديدة من الشوارع والسيارات.
    انها مشارف بلدي، انها شوارعها، كم تغيرت، انه الحاووز يعلو البلدة، والماذن فقد زادت اثنتين، والشوارع العريضة، وسرب من السيارات لا نهاية له ولا اعلم متى انضم الينا. اسرعوا فكم أنا مشتاق لتقبيل يدي أمي، اسرعوا فرائحة خبزها لا تزال تتمخطر امام انفي. اني اراها، أمي في الشارع، تخرج وسط الناس على غير عادتها. هذه أمي وهذا أنا، فاين ذهبت قضبان السجن، هذه أمي، وهذه يدها، أضع يدي بيدها متى شئت، وتفتح ذراعيها، وتتقدم نحوي بسرعة لم أشهدها من قبل، ويداي تلفها، وتضمني، كم اشتقت لهذا الدفء، أعيديني يا أمي طفلاً صغيراً وأعدك ألاً أهرب منك فيكفيني أن أعيش أبد الدهر على دفء صدرك، يكفي دموع، فقد رأيت من خلال دموع أمي فجراً جديداً.

     (المصدر: شبكة قدس، 17/08/2013)


    أضف تعليق



    تعليقات الفيسبوك

حسب التوقيت المحلي لمدينة القدس

حالة الطقس حسب مدينة القدس

استطلاع رأي

ما رأيك في تضامن الشارع الفلسطيني مع الاسرى في معركتهم الأخيرة في داخل سجن عوفر؟

43.5%

16.7%

35.2%

4.6%

أرشيف الإستطلاعات
من الذاكرة الفلسطينية

استشهاد المجاهد أحمد اسماعيل صالح من سرايا القدس أثناء تنفيذه عملية جهادية شمال قطاع غزة

10 مايو 2002

استشهاد الأسير محمد سلامة الجندي نتيجة التعذيب في سجن الخليل والشهيد من سكان مخيم العروب

10 مايو 1993

الأرشيف
القائمة البريدية